يجب تطوير التعليم ليوائم هذا العالم المتغيّر بسرعة
المطلوب هو نقلة نوعيّة في أوساط المعلمين والمربّين؛ ذلك لأنّ عالمنا المعولم، المتصل ببعضه رقميا والمتغيّر بانسيابية، يحتاج إلى عقول جديدة، ولا بدّ للتعليم من أن يتغير ليتكيّف مع الحقائق الجديدة.
نضال ڨسوم
غولف نيوز – 16 سبتمبر 2014
لدى معظم النّاس تصوّر تقليديّ جدّا للتعليم. اسأل شخصا كيف يتخيّل طفله في المدرسة وسوف يصف لك فصلا دراسيا يقف فيه المعلم أمام الطلبة بجانب سبورة (بيضاء، سوداء أو خضراء)، والتلاميذ (بأمل أن يكون عددهم قليلا) جالسين خلف طاولات صغيرة، فرادى أو أزواجاً، صفا خلف صف، يسمعون ويكتبون. واسأل مربّياً (نمطياً) عن أفضل طريقة للتدريس وسوف يتمتم بشيء عن “التعليم النشط” و”التعاونيّ”، وعن التكنولوجيا وأدوات الإنترنت، وأشياء أخرى من الأساليب المبتكرة، لكنّ الحقيقة أنك ستجده غالباً يقوم بإلقاء دروسه بشكل تقليديّ، محاولا تلقين طلبته أكبر كمّ ممكن من المعرفة.
إن هذا بالفعل ما ذكرته دراسة حديثة حول الإبداع والابتكار في التعليم في الاتحاد الأوروبي حيث خلُصت إلى أنّ :”الطرق التقليدية في التعليم، أي الأساليب المتمركزة حول المعلم، والتدريس الإلقائيّ وأسلوب ” الكتابة على اللوح والسرد”، هي السائدة في أغلبية دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين”.
ففي الواقع، وعلى الرغم من العدد الذي لا يحصى من الوثائق والكتب التي تركّز على طرق التعليم المبتكرة، فلا يزال معظم المعلمين يلجؤون إلى الطريقة التقليدية، أي التدريس والتقييم المباشرين (الامتحان بالورقة والقلم لمعرفة كم من “المعرفة” تم حفظه مؤقتا)، إذ من الأسهل بكثير أن تلقّن الطلبة من أن تشاركهم في العملية التعلّمية، وأيضا من السّهل إعطاء امتحان تقليدي، والذي غالبا ما يأتي مع الكتاب المدرسي، بدل أن يتم التقييم بطرق ابتكارية. إنّ المعلمين، بدءا من نفسي، يميلون لا شعوريا إلى البقاء على الطريقة القديمة، ويقاومون أي دفع باتجاه طرق أكثر نشاطا في التدريس والتعلّم والتقييم.
لقد أقنعنا أنفسنا بأنّ هذه الطرق التقليدية صالحة (ألا يحصل بعض الطلبة على درجات عالية؟!)، بل واقتنعنا أنها طرق فعّالة (ألا تتطلّب الطرق الأخرى الكثير من الوقت ونادرا ما تمكّننا من تغطية كامل المنهج المقرّر؟!)، لكنّ الدراسات المتتالية بيّنت لنا أن الطّلبة يتعلّمون بطرق مختلفة جدا عن بعضهم، وهم يشكّلون طيفا واسعا من القدرات، ما يعني أنّ التفاعل والمشاركة هما الأساس لتدريسٍ فعّال خاصّة في عمر مبكّر.
ثم إن عالمنا المعاصر يطرح تحدّيات وأدوات جديدة. فمن جهة، لم تعد الطرق القديمة ذات فعالية للتعامل مع مادة اليوم، ومن جهة أخرى، لم يعد محتوى الدرس هو الجانب الأهمّ في التعليم. لماذا؟ ذلك لأن الكثير من المواد التي ندرّسها متوفّرة ويمكن الوصول إليها (على الإنترنت) بسهولة كبيرة. وكما أقول لطلبتي دوماً: علينا أن نتخلّص من فكرة تخزين المعلومات في عقولنا، ما دمنا موصولين بشكل دائم بالإنترنت عبر الهواتف والألواح الذكيّة التي نحمل في كل لحظة، وبإمكاننا الحصول على كثير من المعلومات عن طريق ويكيبيديا ( أو مصادر أفضل) في ثوان. أما ما نحتاج أن نطوّره اليوم فعلا فهو قدراتنا على تقييم المعلومة التي نتلقّاها، وتنظيمها وإعادة بنائها بطريقة خلاّقة وثاقبة. ما نحتاجه هو تطويرٌ أكبر للتفكير النّقديّ، والقدرة على مناقشة الحقائق ومحاججة الأفكار في عالم بات يتنفس المعلومات المنهمرة والمتباينة في دقتها ونوعيّتها وهي تتدفّق علينا من كلّ صوب.
في الحقيقة، إنّ كثرة المعلومات الجديدة وتوفّرها بسرعة متزايدة فرضت تأثيراً سلبياً آخر في التعليم: صارت معظم المناهج مثقلة كثيرا، بل والأسوأ، هو ما يطالب المدرّسون طلابهم به (بضغط من الإدارات والوزارت) من معرفة وحفظ ذلك الكمّ الهائل من محتوى المنهاج والذي يتوقّع أن تأتي حوله أسئلة امتحانات نهاية السنة.
هل نتوقع إذن من معلم أن يكون مبدعا ومبتكرا في هذه الظروف؟ الاحتمالان واردان : نعم، لأنّه أصبح من الواضح أن الطّرق التقليدية القديمة ليست فعّالة، بينما توجد بالفعل أدوات جديدة تستطيع أن تساعدنا في التّدريس بشكل أفضل. من جهة ثانية : لا، إذ في حين يُنتظر من المعلّمين أن يجرّبوا أفكاراً جديدة، فإنّ التطويرالحقيقيّ لن يتم إلا من خلال جهود مركّزة وجماعية من طرف المعلّمين والإداريّين وخبراء التربية وأولياء الأمور لمعرفة ما الذي يصلح وما الذي لا يصلح. والواقع يقول إن المعلّمين يبقون على الطرق التقليدية لعدّة أسباب: فهم لا يملكون الوقت لتجريب أفكار جديدة؛ بل ولديهم صفوف بأعداد كبيرة، بحيث لا يمكنهم القيام بأيّ شيء سوى التدريس التقليديّ، كما أنهم لا يملكون أيّ حافز للابتكار (فأولياء الأمور ومديرو المدارس لن يرضوا إلا بسجلّ الدرجات المعروف، لا بأيّ “تقييم” ابتكاريّ من نوع جديد)؛ وأخيراً هم يفتقرون إلى الثّقة وفرص التدريب والموارد الضرورية للإبداع.
ومع ذلك، فهناك ما يمكن عمله إذ يتوفّرعدد من الأدوات والطّرق التي أٌثبت نجاحها في حالات مختلفة: التعليم التعاونيّ (الجماعيّ)، والتعلّم المبني على البحث (حيث يتقصّى الطلبة المعرفة من خلال البحث في مسألة معيّنة، يجمعون المعلومات حولها، يشكّلون الفرضيات ويتحقّقون منها، فيتعلّمون من خلال العملية)، وطرق جديدة ” لمعالجة المعلومات” باستعمال المخطّطات والرّسوم البيانية والخرائط، ووسائل أخرى لعرض وحفظ الحقائق المهمّة، والتعليم بالاستكشاف من الطلبة بأنفسهم دون تدخّل مباشر من المعلّم، إلخ.
المطلوب إذن هو نقلة نوعيّة في أوساط المعلّمين والمربّين؛ ذلك لأن عالمنا المعولم، المتصل ببعضه رقميا والانسيابيّ، يحتاج إلى عقول جديدة، ولهذا فعلى التعليم أن يتغير ليتكيّف مع الحقائق الجديدة. يحتاج المعلّمون للتدرّب على التّدريس بهذه الطّرق ذات الفائدة الأكبر والجديدة، وعلى الأقل يجب أن تكون الإنترنت مدمجة مع عمليّة التدريس، لا أن تعامل فقط كمستودع معلومات يمكن تحميلها. وتحتاج المناهج إلى مراجعة وتخفيف وجعلها أكثر تفاعلية وديناميكيّة وأكثر صلة بعالم اليوم.
يحتاج خرّيجونا أن يكونوا مبدعين ومبتكرين في بيئة عملهم المستقبليّ، ولذا يجب علينا نحن المعلّمين أن نريهم أنّ الإبداع والابتكار يبدآن في الصّف.
ترجمة حسام الحسين لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الثلاثاء16 سبتمبر 2014:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/evolution-of-teaching-in-fast-changing-world-1.1385419