مستقبَل عِلْم الفَلَك

يرى نضال قسوم أن المنطقة العربيةبإمكانها أن تستعيد مكانتها في مجال الفَلَك، خاصّةً على المستوى البحثي،إذا وجدت الإرادة والطموح لذلك.

نضال قسوم

انتقدتُ في مقالي «حان الوقت لنهضة فلكية عربية»1 ـ المنشور في دوريةNature الدوليةفي يونيو 2013 ـ الحالة المؤسفة التي وصل إليها علم الفَلَك العربي اليوم،المتباينة تمامًا مع عصره الذهبي، الذي استمر من أوائل القرن التاسع إلىنهاية القرن السادس عشر. فاليوم، لا يوجد في العالم العربي بأكمله مرصدفلكي يحوي تليسكوبًا بقُطْر يزيد على متر واحد، سوى مرصد القطامية بمصر،الذي لا ينتِج سوى القليل جدًّا من الأبحاث القابلة للنشر. قارِنْ هذاباثني عشر أو أكثر من المراصد المنتشرة في كل من الهند وجنوب أفريقيا، وهذهالأخيرة تملك منظارًا بصريًّا قطره 11 مترًا، يُعَدّ الأكبر في النصفالجنوبي من الكرة الأرضية. إنّ هذا الوضع غريب للغاية؛ فالعالَم العربي بهعدة جبال عالية تصلح لإنشاء عدد من المراصد من الطراز العالمي، ويمتلكالثروة المادية المطلوبة لذلك، كما يوجد مجتمع فلكي جيد، على مستوى الهواةوالمحترفين.

هناك مؤشِّر آخر للحالة المؤسفة لعلم الفَلَك العربي، هو ندرة البرامجالجامعية، والإنتاج البحثي الضعيف، الذي يمكن قياسه بعدد الأبحاث المنشورةفي دوريّات علمية عالية المستوى، ومعدلات الاقتباس لتلك الأبحاث، إذ لاتقدِّم غالبية الجامعات العربية مقررًا تمهيديًّا في علم الفَلَك، وهو ماأرى ضرورة إلزام جميع الطلبة بدراسته؛ لأن هذا سيساعدهم على فَهْم الكون منحولهم، والسماء من فوقهم، والظواهر التي تحدث بانتظام (الكسوف، والخسوف،والانفجارات الشمسية، وزَخّات الشُّهُب، والأَهِلَّة، إلخ.)، والاكتشافاتالتي يُعلَن عنها كل يوم تقريبًا (أبرزها الآن، الكواكب الجديدة خارجالمجموعة الشمسية). أما الجامعات التي تطرح درجة بكالوريوس في علم الفَلَك،فتُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، وهي تقل سنة بعد سنة، وعدد الطلبةالمسجّلين في هذا التخصص قليل جدًّا. وعلى مستوى الدراسات العليا، فالوضعمُحْزِن كذلك، كسابقه.

أما بالنسبة إلى البحث الفلكي كمؤشر أخير، فقد عرضتُ في مقالي في دوريةNature الدوليةأرقامًا تثبت أن مجموع الإنتاج البحثي في العالم العربي يتضاءل، مقابلإنتاج إسرائيل، أو تركيا، أو جنوب أفريقيا، سواء من ناحية الكَمّ، أمالكَيْف.

مقاومة الانحدار

منذ نَشْر المقال، وقععدد من التطورات، بعضها إيجابي، والآخر سلبي، فيما يخص مستقبل علم الفَلَكالعربي، المتعلِّق باحتمال إنشاء مرافق فلكية جديدة، أو وضع برامج تدريسجامعية.

ومن أجل التسهيل على الوزارات، والوكالات، والجامعاتالعربية، للبدء في بناء مراصد فلكية، قمتُ مع اثنتين من طالباتي ـ نورةالسعيد، وندى عبد الحافظ ـ بإعداد بحث نظري؛ لتحديد أفضل المواقع للمراصدالفلكية في العالم العربي. استخدمنا في ذلك عددًا من المعايير المعترَف بهادوليًّا، مثل الارتفاع، وشفافية الهواء، وعدد الليالي الصافية في العام،والرطوبة، ودرجة الحرارة والرياح، بناء على البيانات المنشورة أو المتاحةعبر الإنترنت.

نَتَجَتْ عن هذا الجهد قائمةٌ بالمواقع المناسبة لبناءمراصد فلكية بها، وهي ـ حسب أفضليّتها ـ في: جنوب سيناء في مصر، وجبالالحجاز في السعودية، وجبال الهقار والأوراس في الجزائر، ووادي رم فيالأردن، وجبال الأطلس في المغرب، وجبال مرّة في السودان، ودار شيخة فيالعراق. أمّا المواقع الأخرى، فقد كانت أقل من المُرْضِية.

هذا هو حلمي إذن: أنْ يتم بناء مراصد فلكية في كلٍّ مِن تلك المواقع خلال الأعوام العشرة القادمة. وفي مقالي المنشور بدوريةNature الدولية،قمت بتقدير التكلفة الإجمالية لبناء منشأة كبيرة، شاملة المعدات المتطورة،والمباني، والطرق المحلية، والبنية التحتية؛ وقد بلغت من 50 إلى 100 مليوندولار. أما المشروعات الأكثر تواضعًا، خصوصًا في المواقع التي لا تتطلبنفقات ضخمة للبنية التحتية، فيمكن إقامتها بتكلفة 10 ملايين دولار تقريبًا.

أحلم ببناء مراصد فلكية في المواقع التي حدَّدناها حول العالم العربي خلال الأعوام العشرة القادمة.

في أكتوبر من العام الماضي، أعلن2صندوق المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات ـ التابع لحكومة دولة الإماراتالعربية المتحدة، ومجموعة دبي الفلكية ـ إطلاق مشروع مرصد فلكي كبيربميزانية 30 مليون درهم (8.2 مليون دولار أمريكي)، يضم منظارًا قُطْره من 2.5 إلى 3 أمتار. ومن المخطَّط أن يبدأ البناء في هذا الشهر (أكتوبر) فيجبال رأس الخيمة، على ارتفاع 1600 متر. وفي الجزائر، تتواصل دراسة مشروعمرصد في جبال الأوراس (جبل شيليا، بقمة على ارتفاع 2300 متر) منذ سنوات. أبلغني الفلكيُّون القريبون من المشروع أنه تم إحراز تقدُّم إداري جيدمؤخرًا، ومن الممكن أن يبدأ العمل على الأرض لاحقًا في هذا العام.

أخيرًا، وخلال الأعوام القليلة الماضية، جاء ذِكْر3عدة مشروعات لمراصد فلكية في السعودية، وقطر، والعراق، لكن لا توجدإعلانات رسمية، ولا دليل لأي تقدُّم في هذا الصدد على أرض الواقع.

إضافةالى ذلك.. فحال دراسة علم الفَلَك في الجامعات العربية ما زال سيئًا، إنْلم يكن أسوأ من أي وقت مضى. فبرنامج الدكتوراة الذي أقيم بجامعة قسنطينةبالجزائر من عام 2008 إلى عام 2010 بات مجمدًا، ينتظر زوال العقباتالإدارية، وبرنامج الماجستير الذي استمر لأكثر من 15 عامًا بمعهد علومالفلك والفضاء بجامعة آل البيت، بالأردن، يُعَدّ مغلقًا الآن، بدون فريقأكاديمي، أو إداري. والتطور الإيجابي الوحيد مؤخرًا هو بداية طرح برنامجماجستير في الفيزياء الفلكية بجامعة نوتردام ـ لويزة، بلبنان، بالاشتراك معجامعة سانت جوزيف ببيروت.

إذَن، فمستقبَل علم الفَلَك العربي مرهونبالخطوات التالية: 1) بناء مَراصِد تحوي مناظير بِقُطْر يتراوح ما بين مترومترين في المواقع المذكورة أعلاه؛ 2) تدريس مقررات تمهيدية ـ على الأقل ـلعلم الفَلَك في جميع الجامعات العربية، وخاصةً العامّة منها، 3) وضع برامجدراسية متعددة التخصصات بين الفيزياء الفلكية وغيرها من المجالات؛ 4) توفير منح دراسية للطلاب العرب، للالتحاق ببرامج الدراسات العليا في مؤسساتإقليمية ودولية متنوعة؛ 5) تنظيم مؤتمرات ذات معايير دولية، ونشر أعمالها؛ 6) إقامة ورشات حول علم الفَلَك لأساتذة التعليم الثانوي؛ للتأكد من تقديمالموضوعات في المناهج التعليمية بشكل صحيح للطلبة، ولترسيخ حب علم الفَلَكفي مراحل التعليم الأدنى؛ 7) إثراء محتوى الشبكة العنكبوتية في علمالفَلَك باللغة العربية، حيث إنه ـ في الوقت الحالي ـ يُسْفِر البحث عنالموضوعات الفلكية غالبًا عن صفحات تنجيم تأتي في مقدمة الروابط المقترَحة.

إنعلم الفَلَك يحظى بحب حقيقي وعميق في الثقافة العربية؛ ولذا.. حان الوقتلتعزيز ذلك على مختلف الجبهات (التدريس، والبحث العلمي لدى المحترفين،ونشاط الهواة، والإعلام)، ورفْعه إلى مستويات دولية، فهذا العِلْم لديهالكثير من الفوائد التي يعود بها على المجتمع.

References

  1. Guessoum, N. Astrophysics: Time for an Arab astronomy renaissance. Nature 498, 161–164 (2013).
  2. Hanif, N. Dh30 million space observatory in UAE is first of its kind in Gulf. The National www.thenational.ae/uae/dh30-million-space-observatory-in-uae-is-first-of-its-kind-in-gulf (2013).
  3. Alnaimiy, H. Space science and astronomy in the Arab world: Perception between reality and the future. Arabian Agency for astronomy & Space News http://astronomysts.com/articles.php?action=show&id=1 (2009).