تكنولوجيا الفضاء مقياس لتقدّم الدول
نضال قسّوم
خلال الأسابيع القليلة الماضية، حدثت عدة تطورات مثيرة للإعجاب في عالم تكنولوجيا الفضاء، ربما كان أبرزها إطلاق الهند لمركبة فضائية إلى المريخ، تلاها إطلاق الصين لرحلة روبوتية إلى القمر، ووضع الإمارات العربية المتحدة القمر الصناعيّ دبي سات- 2 في مداره بواسطة صاروخ روسيّ.
في العام الماضي، ومع امتلاك الإمارات العربية لثلاثة أقمار صناعية تدور حول كوكبنا (دبي سات-1، ياه سات-A1 وياه سات-B1)، كتبت مقالاً للتأكيد على أهمية الأقمار في حياتنا وفي مجال الاستراتيجية الوطنية. لقد بدأ سباق الفضاء في عام 1957 عندما أطلق السوفييت بنجاح أول قمر صناعيّ في التاريخ، فاعتبره الأمريكيون خطوة قوية للغاية تصدّوا لها بإنشاء وكالة الفضاء “ناسا”، وتجديد المناهج الدراسية الخاصة بالرياضيات والعلوم، وبذل جهد وطنيّ متعدّد التخصصات، وأدّى ذلك كلّه إلى نجاحهم في الوصول للقمر والهبوط على سطحه في أقلّ من 12 عاماّ.
وبالمثل، وفي حين أن الهند متواجدة في الفضاء منذ 40 عاما تقريبا، تطلق الصواريخ وتضع الأقمار الصناعية في مدارات مختلفة، فإنّ بعثتها إلى المريخ تجعلها بين قلّة مختارة من الدول على وجه الأرض وتبعث برسالة إلى الجميع (داخل البلاد وخارجها) مفادها أنّ الهند الآن أمة متقدمة للغاية، تقنياً وعلمياً. وقد سألني بعض طلبتي: ما الذي يجعل الهند تنفق عشرات أو مئات الملايين من الدولارات في مهمّة لن تجلب لها فائدة ملموسة، في حين أن لديها الملايين من الفقراء لتطعمهم؟ وقد أجبت أن الهند تريد أن تنظر للمستقبل وتسير قدماً وتضع أهدافاً عُليا لشعبها.
ويجدر بنا أن نذكّر بأنّ الهند أرسلت قبل بضع سنوات مركبة فضائية إلى القمر، شاندرايان-1، ووجدت الماء هناك، وربما كان ذلك أوّل تأكيد حقيقيّ لوجوده على القمر. كما أعلنت أيضاً عزمها على تطوير برنامج لرحلات فضائية مأهولة في غضون السنوات القليلة القادمة.
وبالإضافة إلى مجموعتها الخاصة من الأقمار الصناعية، للاستشعار عن بعد عالي الدقة ومختلف التطبيقات الأخرى، أصبح للهند مشروع فضائيّ تجاريّ رئيسيّ، يطلق الأقمار الصناعية، بل أحياناُ عدة أقمار في آن، لصالح الدول الأقل تطوّرا، بما في ذلك بعض الدول العربية. ولديها أيضا برنامج تعليميّ قويّ مرتبط بأهداف برنامجها الفضائيّ ، مثل “Stud-Sat” (القمر الصناعيّ للطلاب)، والذي تم بناؤه من قبل طلاب الهندسة في جامعات بنجالورو و حيدر أباد.
وقد وعت الإمارات العربية المتحدة أيضاً أهمية تطوير برنامج للفضاء فكان بناء الأقمار سالفة الذكر باعتماد من المالية الإماراتية و(جزئياً على الأقل) بمساهمة الكفاءات الإماراتية، وهذا بحدّ ذاته مسعى نبيل للتنمية البشرية. وعلاوة على ذلك، فإن الأقمار “دبي سات” و “ياه سات” توفّر بيانات مهمة، وهو هدف كبير آخر من أهداف البرنامج. وربما في المستقبل القريب، سيتم تطوير قدرات إطلاق وطنية، كما فعلت دول أخرى في المنطقة.
لقد كان العراق أول دولة عربية تطلق قمراً صناعياً (في ديسمبر 1989)، لتصبح الدولة العاشرة في العالم في وضع قمر صناعيّ لها حول الأرض. وفيما بعد، تمّ إطلاق أقمار لصالح دول عربية، وكانت أغراضها تركّز إلى حد كبير على الاستشعار عن بعد، ومثال ذلك المغرب (Maroc-Tubsat ، الذي أُطلق في ديسمبر 2001)، والجزائر (مع قمرها ألسات-1، الذي أطلق في نوفمبر 2002)، أو شبكات الإتصال، كمثل أقمار ثريّا للإمارات العربية (التي بنتها شركة بوينغ، وكان أول إطلاق لها في أكتوبر 2000، والثاني في يناير 2003).
أمّا إقليميا، ولعدد من السنوات الآن، فقد طوّرت إيران برامج فضائية في اتجاهين متكاملين: بناء أقمار صناعية محلية الصنع وتطوير تكنولوجيا الصواريخ التي يمكنها وضع الأقمار بدقة في مدار ما. وقد نجحت إيران قبل بضعة سنوات في القيام بكلا المهمتين، وقبل بضعة أشهر أعلنت عن إنشاء مركز فضاء جديد يمكنه، من بين أمور أخرى، تتبّع أي “أجسام” تمرّ فوق البلاد. وبعد فترة وجيزة أرسلت قرداً إلى الفضاء (القريب) وكان هذا في الربيع الماضي، وقد أعلنت أنها تخطط لإرسال بشر للفضاء بحلول عام 2018.
أخيرا، وعلى مدى عقود، صارت إسرائيل قوة فضائية، فقد أطلقت عشرات من الأقمار الصناعية، ولا يعرف عددها بدقة، حيث أنّ كثيراً منها “سرّيّ للغاية”… ولكنّ الأهمّ من ذلك، أنها ذات زعامة معترف بها في عدة مجالات لتكنولوجيا الفضاء، مثل الأقمار الصناعية الأصغر (“أقمار النانو”) والبعثات الفضائية الروبوتية. وتأمل إسرائيل في أن تنزل مركبة فضائية صغيرة على سطح القمر في العام المقبل. كما أنها وضعت برامج تعليمية متطوّرة ترتبط بمشاريعها الفضائية.
قبل عامين، عقدت لجنة العلوم والفضاء والتكنولوجيا في الكونغرس الأميركي جلسة لمناقشة وضع برنامج الفضاء الأمريكي. وقد قدّم أوّل الذين مشوا على سطح القمر وآخرهم، نيل أرمسترونغ ويوجين سيرنان، وجهتي نظرهما. قال “سيرنان” بوضوح وبلاغة : “إن برنامج الفضاء هو استثمار في المستقبل، استثمار في التكنولوجيا، وفي فرص العمل، وفي التقدير الدوليّ وفي الريادة السياسية، وربما الأهمّ هو أنه استثمار في إلهام شبابنا وتعليمهم. الآن هو الوقت المناسب لنكون جريئين ومبتكرين وحكيمين في كيفية الاستثمار في مستقبل أمريكا. الآن هو الوقت المناسب لإعادة التأكيد على التزام أمّتنا بالتميّز. إنّ الموضوع ليس في الفضاء ذاته، بل هو في الدولة نفسها”.
ذلك هو ملخّص ما تنطوي عليه برامج الفضاء: قدرة تكنولوجية عالية، وأهداف تعليمية عظيمة، واقتصاد قائم على المعرفة والعلوم، ورؤية استراتيجية كبرى…
ترجمة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الثلاثاء 17 ديسمبر 2013: http://gulfnews.com/opinions/columnists/space-technology-measures-nation-s-progress-1.1267728