هل فقد العلم صرامته؟

نضال قسّوم
منذ بضعة أسابيع، نشرت المجلتان المرموقتان “Science” و “The Economist”، تحقيقات مطوّلة عن جوانب مهمة في مسار البحوث العلمية الحالية. وقد كانت صورة الوضع كما بيّنتها المجلّتان مقلقة للغاية.
قامت مجلة “The Economist”، وقد عنونت عددها بـ”بحوث لا يمكن الاعتماد عليها”، بعرض الأدلة المتزايدة الدالّة على أنّ جزءاً كبيراً مما ينشر في المجلات العلمية اليوم هو خاطئ، ولو أن نسبة ذلك تتفاوت من مجال إلى آخر. وليس الأمر محصوراً في أنّ ما ينشر يحتوي على أخطاء كبيرة فحسب، بل إنّ الأكثر خطورة هو أنّ جزءاً كبيرا من الأبحاث التي تنشر اليوم لا يتم التأكد منه فيما بعد عن طريق الإعادة أو الفحص والتدقيق.
أود التوضيح بأن لا أحد يتهم العلماء بنشر نتائج خاطئة عمداً، بل الشكوى العامة هي أنّ العلم يبدو أنه قد فقد آلية التصحيح الذاتيّ التي جعلته ربما أقوى مؤسسة إنسانية في التاريخ.
أما مجلة “Science”، وهي مجلة مشهورة ومؤثرة، فقد تناولت الاتجاه المتنامي للنشر بشكل “مفتوح” (Open Access)، حيث كثيرا ما يتم نشر الورقة البحثية في مجلات على الإنترنت برسوم تبلغ عدة مئات من الدولارات. وفي حين لا يزال ثمة تطبيق نظام التجكيم (ورفض جزء مما يقدّم) قائماً، فإن هذه المجلات تجعل من الأسهل بكثير نشر ورقة بحثية وجعل الوصول إليها “مفتوحا” للجميع. وهذا التوجه معاكس لنظام النشر الأكاديمي المتعارف عليه، والذي يعتمد على رسوم الاشتراك العالية جدا التي تدفعها المكتبات للحصول على الأوراق البحثية لصالح باحثي جامعاتها ومعاهدها. لكنّ العديد من العلماء يرون في هذا النظام السائد احتكاراً وحائلاً دون نشر واسع لنتائج البحوث، وبالتالي صارت المجلات الرقمية “ذات الوصول المفتوح” منتشرة بشكل عجيب في جميع المجالات.
وفي خطوة فريدة من نوعها، قامت مجلة “Science” بتجربة بسيطة ولكنها صادمة، إذ تمّ تقديم ورقة بحثية وهمية (لا معنى لمحتواها ونتائجها) إلى 304 مجلة من مجلات الوصول المفتوح. وكانت المفاجأة أن هذه الورقة الوهمية قُبِلت من طرف 157 مجلّة! لقد ألحّ بعض المنتقدين فيما بعد على أنّ معظم تلك الـ 304 مجلة كانت معروفة بتدنّي مستواها وأنّه ليست كلّ مجلات الوصول المفتوح سيئة…
لكن الأكثر أهمية في موضوعنا، أنّ مجلة “The Economist” استنكرت المعدل العالي من النتائج الخاطئة التي تم نشرها (في كلا نظامي النشر) ولم يتمّ تصحيحها أبداً.
لماذا يحصل هذا؟ هناك عدة أسباب. أولا وقبل كل شيء، إنّه نادراَ ما يكون هناك “تكرار” لبحوث ما منشورة سلفا بغرض التحقّق منها من قبل فريق آخر. ذلك لأنّ الدوريات مهتمة أكثر بـ”النتائج الإيجابية” بدلاً من “الإعادة”. وأيضاً لأنه غالبا ما يكون من الصعب جداَ إعادة إجراء بحث قام به فريق آخر، إذ نادرا ما تُعطى التفاصيل الكاملة المتعلّقة بالبحث. علاوة على ذلك، ولأنّ الأوساط الأكادمية الآن أسّست ما يشبه ثقافة “أنشر أو تهلك” بالنسبة للأكاديميين (لأغراض الاحتفاظ بالوظيفة والترقية مثلاً)، فإنّ الباحثين يُدفعون غالباً لنشر “أبحاث” ما حتى لو كانوا هم أنفسهم غير مقتنعين بصلاحية ” نتائجهم”.
وقد اخبرتنا مجلة “The Economist” أنّه في الحالات القليلة التي تمت فيها مراجعة النتائج حول موضوع معيّن، كانت نسبة تأكيد النتائج السابقة تتراوح بين 10 و25 % !
إنّ ذلك صادمٌ بالفعل!، خصوصا عندما نتذكّر أنّ معظم، إن لم يكن جميع، تلك المجلات تقوم بعملية تحكيم (كثيراً ما تكون مستفيضة) للأوراق قبل الموافقة عليها لنشرها أو رفضها. وبالفعل، فإن معظم تلك النتائج التي تمّ كشف خطئها أو استحالة تكرارها كانت قد نُشرت بعد تحكيم خبراء. في الحقيقة، فإن النظر في عملية التحكيم قد أشارت لعيوب خطيرة فيها. وفعلا، فإنّ العديد من المجلات المرموقة وذات السمعة العالية قامت بنشر أوراق خاطئة كليّا في السنوات الأخيرة…
منذ حوالي 15 سنة، تعرّض باحث عالمي شهير (كنت قد تعاونتُ معه) لحالة اكتئاب شديد بعدما تمّ الكشف عن خطأ بيانات ونتائج أبحاث قدّمها فريق آخر في مؤتمرات رفيعة المستوى. لسوء الحظ، كان هذا العالم قد أمضى عدّة سنوات في نشر أوراق بحثية تقوم على تحليل تلك البيانات، وتبيّن أن جميعها خاطئ من جراء خطأ النتائج الأصلية…
وأتذكر أيضاً أنه في إحدى المرات وبمجرّد الإعلان عن رصد فلكي مذهل، ذي “أهمية” إحصائية فائقة، تبيّن أن ذلك الرصد كان مصدره من داخل الجهاز لا من الفضاء…
إنّ هذا يقودنا إلى سبب آخر للاضطراب الحالي في العملية العلمية: معظم العلماء هم بحاجة ماسّة للتدريب في مجال الاحصاءات. في الواقع، أصبحت البيانات اليوم ضخمة وهائلة، ما يجعل الحاجة قويّة لأدوات إحصائية متطوّرة ومتقنة لتجنّب الخلوص لنتائج خاطئة لكنها تبدو مبهرة. وعلاوة على ذلك، أصبحت النماذج العلمية على درجة من التعقيد (في معظم المجالات)، ومن السهل الحصول على بيانات “مناسبة” قد تبدو منطقية وتشير الى آلية فيزيائية ما… إلا أنه لا أساس لها في الواقع.
إذن، ما الذي يجب فعله حيال ذلك؟ أولا، الأكادميون – وأكثر من ذلك مسؤولو الجامعات والمعاهد – بحاجة إلى تخفيف ضغط النشر. من الأفضل للجميع نشر أوراق بحثية أقلّ لكن بمستوى رصين بدلاً من نشر كميات أكبر من الأوراق لن تكون سوى إضافة لما هو موجود من “الخردة”. ثانيا، لقد غيّر الإنترنت عالم الأبحاث، والمشروع العلمي صار يحتاج إلى تطوير، الى مزيد من المشاركة، والى العمل المشترك للتحقق والتدقيق في البحوث.
لقد قدّمت مجلّتا “Science” و “The Economist” خدمة كبيرة للوسط الأكاديمي من خلال تسليط الضوء على هذه المشكلة الكبيرة. والأكثر أهمية، هو أننا بحاجة إلى تثقيف الجيل القادم من الباحثين حول مخاطر النشر بتسرّع، فالمؤسسة العلمية بكاملها على المحكّ.

ترجمة أ. وعد العبّاسي لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الجمعة 7 نوفمبر 2013:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/the-waning-rigour-of-scientific-quests-1.1252487