هل يمنع الإسلام حتى دراسة نظرية التطوّر؟
أ.د نضال قسّوم
قبل بضعة أسابيع، اندلعت قضيّة في وسائل الإعلام (الغربي) حول رفض متزايد لحضور دروس نظرية التطور البيولوجي من قِبل طلاب من مسلمي بريطانيا. وقال التقرير إنّه حتى طلاب الطب كانوا جزءاً من هذه الظاهرة المقلقة. وانتشرت القضيّة بسرعة البرق، حتى أنّ قناة الـBBC وقناة الجزيرة نشرتا برامج حولها.
وقبل أن أناقش هذا الأمر، يجب أن أشير إلى أنّ على المرء الحذر كي لا يتعامل مع الأخبار المثيرة كما لو كانت تمثّل اتجاهاً عاماً، أي أن على المرء أن يتساءل عن عدد الطلاب المسلمين في بريطانيا وأماكن أخرى الذين يعارضون دروس نظرية التطوّر فعلاً.
ومع أنّ موضوع ” التطوّر البيولوجي” مرفوض كفكرة بشكل واسع من قِبل المسملين، بمن فيهم ذوو التعليم العالي، فإنه يُدرّس في بلدان مثل مصر وإيران وباكستان والإمارات العربيّة المتحدّة، على الأقل في الجامعات وأحيانا أيضا في الثانويات. ولم يحدث أن تم الإبلاغ عن أيّ حالة مقاطعة من الطلاب لدروس نظرية التطوّر في تلك البلدان. صحيح أن تقارير متفرقة قد وردت عن طلاب “قاوموا” تدريس النظرية في بعض الجامعات الغربيّة (في هولاندا مثلا)، لكن ليس على نطاق واسع بحيث يتحوّل الأمر الى قضية رأي عام. ومن المحتمل أنّ الطلاب المسلمين في مكان آخر يرفضون النظرية التطوّر أيضاً ولكن عمليّاً كثيرا ما “يقتصر” الأمر الى دراسة النظرية على أنّها مجرد جزء من المنهج الدراسي، دون تحويلها إلى قضيّة اجتماعية.
ثانياً، يجب أن يأخذ المرء بعين الاعتبار الجوانب الثقافية الأخرى لمواقف الطلاب المسلمين هذه في الغرب، أي قضايا الهويّة، ووضع الأقليّة، والقانون، كما في حالة الجدل حول الحجاب والنقاب على سبيل المثال. أو ربما أنّ الطلاب المسلمين يعتبرون نظرية التطوّر البيولوجي نظريّة غربية بحتة، تمثّل الماديّة والفلسفة الإلحاديّة، وبالتالي يستهدفونها كتعبير عن نظرة مختلفة جداً نحو العالم. بتعبير آخر، إنّ رفض نظرية التطوّر يمكن أن يُنظر إليه على أنّه إصرار من قبل أقلية على حقها في الالتزام بمراسيمها الدينية حتى في المناهج التعليمية.
هناك دراسات مسحية بيّنت أنّ المسلمين في كلّ مكان تقريبا يرفضون بشكل واسع أساسيات نظريّة التطور ونتائجها، خاصة ما ينطبق منها على البشر. حتى المسلمون المتعلمون – وهنا تبرز خاصية للمجتمعات والجاليات المسلمة اليوم – يعتبرون التطوّر “مجرّد نظرية” ويرفضون قبول أننا نحن البشر نشارك القردة بأجداد مشتركة، وأنّ كل الكائنات (الحيوانات والنباتات) أتت من خلية أم.
في كتابي الأخير (Islam’s Quantum Question: reconciling Muslim tradition and modern science)، ذكرت دراسة مسحية أجريتها في جامعتي بين الطلاب والأساتذة، حيث لا يقتصر الأمر على كون 60% من المشاركين في الاستطلاع يقولون إنّ “التطوّر ليس نظريّة مؤكدة”، بل أيضاً أن حوالي 80% منهم إما يفضّلون عدم تدريس النظريّة أو يقبلون تدريسها “لكن كمجرّد نظريّة”.
وقد أُجرِيَت دراسة استقصائية عام 2005 بين الأطباء، حيث أنّ 29 من أصل 40 طبيباً مسلماً أيّدوا تيّار “التصميم الذكيّ” المعاكسة لنظرية التطوّر السائدة. وحاليّا، يقود الباحث سلمان حميد مشروعاً لاستقصاء آراء الأطباء وطلبة الطبّ المسلمين في مصر وأندونيسيا وماليزيا وباستان وتركيا؛ وتبيّن النتائج الأولية أن معظم الأطباء الماليزيين يرفضون نظرية التطوّر، لا سيّما ما يتعلّق منها بالبشر، على الرغم من أن الصورة أكثر تعقيداً من أن يستطيع المرء تلخيصه بسرعة.
في الواقع، لا يوجد موقف إسلامي موحّد تجاه نظريّة التطوّر. ومنذ صياغة داروين الأولى (والتحسينات اللاحقة على ذلك)، كانت ردة فعل العلماء المسلمين تجاهها متنوعة في وجهات النظر، بما فيها قبول كامل أحياناً للسيناريو الموضوع حول أصل البشرية وتاريخها. وفي كل الأحوال، يؤكّد علماء الإسلام على التفسير الإيماني: أنّ الله تعالى خطط لكل عمليات التطوّر عن طريق تضمينها في قوانين الطبيعة، بل ربما قد يكون “قادها”.
ولكن هناك أيضا مواقف قويّة “خلقانية” (أي قائلة بالخلق المباشر دون تطوّر) في ثقافة المسلمين اليوم، وأوضحها وأقواها ما تمّ التعبيرعنها من قِبل هارون يحيى ومجموعته الذين قاموا على مدى العقد الماضي أو أكثر بحملة عدوانية تجاه نظرية التطوّر للتأثير في توجاهات ومواقف المسلمين في جميع أنحاء العالم، بما فيها المملكة المتحدة وفرنسا، حيث تم تنظيم جولات لمحاضرات، وتعميم كتب (مثل كتاب “أطلس الخلق” سيء السمعة) وتوزيعها على نطاق واسع مجاناً أو بأسعار جد مخفّضة. ويمكن الاطلاع على عرض كامل للمواقف الإسلامية في كتابي المذكور أعلاه، بما في ذلك نقد مفصّل لادّعاءات هارون يحيى.
وبما أنّ هناك طيفٌ واسع من المواقف الإسلامية المتنوّعة تجاه نظرية التطوّر، فلم إذن يدّعي أولئك الطلبة (المقاطعون لدروس التطوّر) أنّ النظرية معارضة لتعاليم القرآن الكريم؟
أولاً، هذا الموقف هو خلط بين الأمور: فالقرآن الكريم لا ينبغي أن يكون مرجعية للتحقّق من أي نظرية أو نتيجة علمية: القرآن كتاب توجيه روحيّ ومعنويّ واجتماعيّ. وعلى الرغم من أنّه يشجّع الناس على استكشاف العالم واستخلاص نظرة واسعة منه، بل هي من تعاليمه، فإنّه لا يدّعي تقديم توصيفات، ناهيك عن تقديم تفسيرات محددة، حول الكيفية التي يسير بها العالم في أي مجال.
ثانيّاً، إنّ القول بأنّ نظرية التطوّر هي ضد تعاليم القرآن الكريم ينبع من اتخاذ قصص معيّنة، وتحديداً قصة خلق آدم، بشكل حرفيّ، وقبول تأويلات العلماء القدماء للكتاب الكريم على أنها المعنى النهائي لتلك الآيات. وكما كنت أقول دائماً للناس، تماما كما أننا لا نرفض نموذج مركزية الشمس في النظام الشمسي فقط لأن القرآن يقول “وترى الشمس اذا طلعت” و “قبل طلوع الشمس وقبل غروبها”، يجب علينا بالمثل أن لا نرفض التطوّر لمجرّد أن الكتاب يقول “إني خالق بشرا من طين”.
وإنّ انفتاح القرآن لإعادة التأويل جرى التأكيد عليه مؤخّراً من قِبل الشيخ يوسف القرضاوي، وهو ربما أكثر العلماء المسلمين تأثيراً خلال العقود القليلة الماضية، حيث صرّح أنّه “لو ثبتت قضية نظرية داروين، عندنا من الآيات ما يمكن أن يدخل فيها…”.
إنّ رفض نظريّة التطوّر في ثقافة المسلمين اليوم هو انعكاس لهيمنة التوجّهات الحرفيّة والأصولية في فهم الإسلام في أنحاء واسعة من العالم، بما في ذلك بين الأقليّات المسلمة في الغرب. وإنّ حملات هارون يحيى وما شابهها تأتي بنتائج عكسيّة ولا تبشّر بالخير للمسلمين، سواء فيما يتعلّق بالعلم أو بالحداثة بشكل عام.
أخيراً وليس آخراً، من المؤسف جدّا أنّ المسملين يدّعون أنّ المعرفة والعلم يحتلان مكانة عالية في الإسلام، ولكن كثيرا منهم بعد ذلك ينقلبون متحجّرين فكرياً ومنغلقين عقلياً وانتقائيين بين نتائج العلوم، في الوقت الذي يتوجّب عليهم فيه على الأقلّ تعلّم نظريّة تتحدّى تصوّراتهم القديمة. كيف يمكن تشجيع العلم والمعرفة والترويج لهما في حين يتم الإصرار على التمسّك مسبقاً بمواقف قبل إثباتها؟!
إنّ من الواجب على المسلمين في كلّ مكان فتح عقولهم لكلّ الأفكار الجديدة. ويجب أن يكونوا واثقين من أنّ إيمانهم ونظرتهم راسخة بما يكفي للتعامل مع الحداثة في وجوهها المختلفة. بل يمكن لوجهات النظر الجديدة أن تساعد على صقل المعتقدات وإخراج وجهات نظر للعالم هي أكثر انسجاما مع المعارف الجديدة ومع روح العصر.
إنّ الإسلام ليس فقط غير ممانع لدراسة التطوّر أو أيّ نظريّة أخرى، بل إنّه يرحّب بكل معرفة رصينة ويتعامل معها بكل موضوعية. والمسلمون اليوم مدعوون إلى الانخراط في العلم والفلسفة والفن بكل ثقة وبعقول متفتحة.
By Nidhal Guessoum, published in The Huffington Post, April 1st 2012