هل طلبة اليوم مختلفون؟
هل تعرفون تلك النكتة عن الأب الذي لا ينفكّ يقول لأولاده : “عندما كنت في مثل سنّكم، كنت أغدو مشيا إلى المدرسة مسافة 5 كم، صعدا، في الذهاب والإياب…”؟ إن في هذه “القصة” ما يشير إلى الحقيقة الخالدة بأنّ كلّ جيل يعتقد أنه الأشجع والأكثر إنتاجا وتحصيلا من الجيل اللاحق، الذي يُنظر إليه دوما على أنه جيل كسول مدلّل.
إن تلك النظرة المغلوطة تنطبق أيضا على رؤيتنا للطلبة اليوم. فالآباء والمعلمون كثيرا ما يصرّحون بأن أبناءهم وطلبتهم يحصلون على كل الموارد بسهولة وتتوفّر لهم الظروف المواتية المريحة، بل وأنهم لا يقدّرون ذلك ولا يحسنون استثماره.
في الحقيقة، فإن المقارنة بين جيل طلبة الحاضر وجيل طلبة الأمس هي مقارنة لا معنى لها ! فالظروف السياسية والاقتصادية والثقافية قد اختلفت بشكل كبير. وأنا أدرك من خلال تجربتي الشخصية، سواء عندما كنت طالبا وبعدما صرت أستاذا جامعيا، في دول تختلف جذريا في ظروف الدراسة، أن المقارنة لا تصحّ حتى في السنة نفسها، ناهيك عن المقارنة على مدى عقود.
ثم إن روح العصر تشكّل عقليات الطلبة وتؤثر في توجّهاتهم. فمثلا حينما كنت طالبا، كنّا (أنا وأبناء جيلي) مهتمّين كثيرا بالأحداث السياسية العالمية (كانت الحرب الباردة على أشدّها، والحروب تندلع بكثرة، إلخ)، وكان النشاط السياسي داخل الحرم الجامعي مألوفاً في كل مكان، حتى في الولايات المتحدة.
أما حالياً فقد تغيّر الزمن. فمثلاً، في استطلاع للرأي تم إعلان نتائجه قبل شهرين، أعرب الطلبة الأمريكيون أن أهم حدث بالنسبة لهم في هذا العصر هو بناء الشبكة العنكبوتية! وتلتها في الأهمية الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 في المركز الثالث.
يلاحظ إذن أن طلبة اليوم أقل اهتماما بالأمور السياسية. ففي الوقت الذي كان فيه طلبة الأمس ينظمون احتجاجات في الحرم الجامعي على إثر بعض الأحداث السياسية، فإن طلبة اليوم قد يقومون باعتصامات فيما لو تغيّرت سياسة الإنترنت في جامعاتهم، كما فعل طلبة الجامعة في نيوجيرسي قبل بضعة سنوات!
لكن في الحقيقة ليس هذا هو الهدف الرئيسي لمقالتي. أنا مدرّس، وإداريّ بشكل جزئي، وأؤمن أننا لن نكون قادرين على تعليم الطلبة بشكل جيد إلا إذا فهمنا عقلياتهم وتصرفاتهم وتطلعاتهم ومخاوفهم. فطرق التعليم ومحتويات المناهج تتأثّر بمدى فهمنا هذا (من عدمه).
يدرك الجميع اليوم مدى انغماس الطلبة بل وإدمانهم على الأجهزة الرقمية. فهم يستغلون أي دقيقة تتاح لهم بين المحاضرات، بل وحتى أي برهة ضمن وقت المحاضرة، للإسراع في تفقّد بريدهم الإلكتروني والدردشة مع أصدقائهم عن بعد أو إرسال رسائلهم الرقمية. والطالب العادي في المملكة المتحدة يرسل ويستقبل في المتوسط مئة رسالة نصية قصيرة في اليوم.
إن لهذه الظاهرة آثاراً تربويّة مهمة. فطلبة اليوم يتوقّعون استجابة الأساتذة لهم على الفور من خلال البريد الإلكتروني. فمثلاً أحد طلبتي عبّر عن استيائه عندما “انتظر ردّي لرسالته الإلكترونية لمدة ساعتين”!
إن كثيرا من المعلمين اليوم ينشئون صفحات على الفيسبوك لمساقاتهم التعليمية، أو على الأقلّ لمشاريع ضمن مساقاتهم. وبالتأكيد يتوقّع الطلبة توفّر واجهة رقمية للمقرر (مثل نظام Blackboard)، حيث يحصلون إلكترونياً على مادة تكميلية للمساق، ومراجع إضافية للمحاضرات وواجبات، ودرجات التقييم.
قبل بضعة سنوات، قمت بتدريس مساق إلكترونيا بشكل كامل في جامعتي. وبعد الاتفاق مع الإدارة حول كفاية الامتحان، كان السؤال الرئيسي حول مدى قدرة الطلبة على أخذ مقرّر المساق بالكامل إلكترونياً، دون أي تواصل مباشر وجها لوجه. ولقد ذهلت في الحقيقة لما لاحظت أن مستوى التواصل والمشاركة من قبل الطلبة سواء معي أو مع زملائهم كان أعلى بكثير مما هو في الفصول الدراسية العادية.
فالطلبة الذين كانوا يحجمون عن رفع أياديهم للمشاركة المباشرة داخل قاعة الدرس على مدى فصل كامل باتوا متحرّرين الآن من الموانع التي كانت تحول بينهم وبين المشاركة، فأصبحوا يرسلون عشرات أو حتى مئات من المشاركات، ويطرحون الأسئلة (إلكترونيا)، ويستجيبون للنقاش، ويضيفون روابط لموادّ جيدة، وينشئون روابط مع زملائهم مما ينتج تعاونا غنياً أكثر مما سبق وشهدته في الفصول العادية.
لكن في المقابل، فإن هذه الحياة الإلكترونية للطلبة قد أثّرت في اهتماماتهم وأنماط تعلّمهم. ويشكو المعلمون اليوم من اضطرارهم الدائم لتقديم “ترفيه” للطلبة خلال المحاضرات لضمان انتباههم.
وقد أشار استطلاع حديث قام به “مشروع بيو Pew للإنترنت” أن الطلبة اليوم قد اعتادوا على الحصول على إجابات سريعة على أسئلتهم عن طريق البحث السريع على “غوغل”، فيما يمكن تسميته بـ “ظاهرة الويكيبيديا” (مقالة جامعة لأي موضوع يطرح). وكما ذكرت في مقالة سابقة، فإن المدرسين اليوم يحتاجون للتأقلم مع هذه البيئة وهذا السلوك الجديدين وتدريب طلبتهم على البحث بعناية وصبر للحصول على مادة جيدة موثوقة، وعدم الاكتفاء بالنتائج الأولى التي يظهرها محرّك البحث “غوغل”.
ومن جهة أخرى فإن العولمة قد أثّرت هي الأخرى في طلبة اليوم وبطرق أكثر خفاء. ففي الوقت الذي يعتقد فيه الجميع أن الصين ستسود خلال هذا القرن، فلا يبدو أن أحداً يعرف اسم الرئيس الصيني. لكن الطلبة يدركون أن عليهم المنافسة مع أشخاص من مناطق العالم كافة للحصول على الوظائف ومقاعد للدراسات العليا، وأن إتقانهم للغتين بل ولثلاث صار ضرورة. وهم يعلمون أنه قد ينتهي بهم المطاف للعمل والعيش في أيّ مكان في العالم حسب ما تدفعهم الظروف (العالمية).
وخلاصة القول فإن طلبة اليوم قد جبلوا على التقنية الرقمية، وتغيّرت أنماط قراءاتهم وتعلّمهم وعاداتهم في التواصل بشكل جذري، مقارنة بما كان عليه الوضع مع الجيل السابق، بل بما كان عليه الوضع قبل عقد فقط! وإن على المدرّسين التأقلم مع هذا التغيير. كما أن العولمة قد أثّرت إلى حدّ ما في الطلبة، وهم واعون بالتحدّيات ومستعدون لمواجهتها، وعلى صنّاع القرار والاقتصاديين أخذ كل ذلك بعين الاعتبار.
أخيراً وليس آخراً، يبقى على الآباء أن يربّوا أبناءهم لزمان هو بالتأكيد مختلف عن زمانهم.