مـوت مُذَنَّب

قبل أن يتحطم قرب الشمس، صار المُذَنَّب «أيسون» من مشاهير العلم. ويحاول الباحثون الآن استقاء الدروس من هذا الحدث.

ألكسندرا ويتز

بالقرب من ضفاف نهر بوتوماك، في مكتب تتبعثر فيه قواعد أقداح عليها شعار كرافت بير، وقدح دكتور هُو، يواصل كارل باتامس مشاهدة المُذَنَّبات الطائشة التي تدنو من سطح الشمس.

منذ عقد من الزمان، عندما انضم عالم الفيزياء الفلكية إلى مختبر بحوث البحرية الأمريكية في واشنطن العاصمة، لم يكن له اهتمام قوي بالمُذَنَّبات، لكنه أُرغم على الخدمة بسبب عمل المختبر في معدات بعثتين في مجال الفيزياء الشمسية، يمكنهما رصد الأجرام التي تمر قريبًا جدًّا من الشمس. وقد رصدت البعثتان حوالي 2600 من تلك المُذَنَّبات «التي ترعى حول للشمس» sun-grazing حتى الآن. ومن مهام وظيفة باتامس إعداد دليل مصور لهذه الاكتشافات. إنه الآن الوحيد في العالم العاكف على اقتفاء المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس. وقد قال في صباح غائم في يناير الماضي: «آمل أن أحصل على طالب متدرب في فصل الصيف، لكن حتى ذلك الحين.. سأظل أنا وحسب».

كل مُذَنَّبات النظام الشمسي ترتحل حول الشمس، لكن المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس تطير في حدود ثلاثة أنصاف أقطار الشمس من مركز النجم (نحو 1.4 مليون كيلو متر فوق سطحها). حظي باتامس بالشهرة في الخريف الماضي ضمن مجموعة بحثية، تتبع أثر أكثر المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس شهرة، ألا وهو مُذَنَّب «أيسون» ISON. وبينما كان «أيسون» يرتحل في النظام الشمسي الداخلي، ازدادت التوقعات بسرعة بين الفلكيين وهواة الرصد. وقد ساور كثيرين أملٌ في احتمال نجاته أثناء مروره القريب من (الشمس)، حتى يصير مشهدًا مثيرًا في السماء ليلًا، واستمراره زادًا للدراسة العلمية. وبدلًا من ذلك.. تفتَّت المُذَنَّب على نحو مشهود في نوفمبر، قبل سويعات، حيث كان يتهيأ لاجتياز الشمس.

يتساءل العلماء لم لقي «أيسون» هذا المصير. تشير النتائج الأولية إلى أنه ربما كان متطايرًا للغاية، وأصغر من أن ينجو من حرارة الشمس الحارقة ( M. M. Knight and K. Battams Preprint at http://arxiv.org/abs/1401.7028; 2014). كان «أيسون» مُذَنَّبًا غازيًا دقيقًا يقوم بأول رحلة له على الإطلاق في النظام الشمسي الداخلي – توليفة ربما هي التي حكمت عليه بالنهاية مبكرًا.

بيد أن موته قد يمثل علامة فارقة في دراسة المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس. شوهد «أيسون» نائيًا جدًّا في النظام الشمسي، وسمح مساره غير العادي لمركبة فضائية تدور حول الأرض والمريخ وعطارد أن تلتقط له صورًا من عدة نقاط ممتازة. جعل هذا «أيسون» أكثر المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس دراسةً حتى يومنا هذا. وما تعلمه الباحثون حتى الآن يشير إلى أن المُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس لديها الكثير الذي تكشفه عن تنوع المُذَنَّبات، وكيف أنه من الصعب التنبؤ بما يمكن أن تفعله. وحتى وهم يعتصرون النتائجَ وينتزعونها من حادثة «أيسون»، يعدّ الفلكيون العدة للتناوش المُذَنَّبي القريب التالي في نهاية عامنا هذا.

لقد أرست قوة النيران الهائلة المرصودة لمُذَنَّب «أيسون» معيارًا جديدًا للتنسيق بين أسطول المركبات الفضائية والتليسكوبات الأرضية. «لقد كان على وشك جمعهم جميعًا» كما يقول باتامس. «وهذا لم يحدث من قبل قط».

وهج المجد

ظلَّ مراقبو السماء ـ لعدة قرون ـ يتعرفون على أجرام تختفي على جانب الشمس، وتعاود البزوغ على الجانب الآخر. ففي عام 1687، نشر إسحاق نيوتن أول حسابات لمدار الأجرام التي ترعى حول الشمس، مبينًا أن مُذَنَّب 1680 الهائل انتقل وفق قوانين الجاذبية التي وضعها، لكنه لم يكن عصر الأقمار الاصطناعية، التي يمكن للناس من خلالها مشاهدة الأجرام والمُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس عن كثب.

اكتشف هواة علم الفلك معظم الأجرام والمُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس قبل أيام قليلة من مرورها عبر جو الشمس، وذلك بغربلة الصور الملتقَطة عن طريق المركبة الفضائية للرصد الشمسي والغلاف الشمسي- سوهو (SOHO) – والبحث فيها. فالمسبار الشمسي الذي انطلق في عام 1995 يحدق في الشمس عن طريق مجموعة من ثلاثة رواسم للإكليل الشمسي، جهّزتها البحرية الأمريكية، التي تحجب قرص الشمس المركزي، ما يسمح للفلكيين برؤية تفاصيل غلافها الخارجي الوهّاج وما حوله. وبمجرد أن يروا مُذَنَّبًا محتملًا؛ ينبِّه الهواة باتامس.

Satellite Locations: NASA/STEREO. Photographs, Left to Right: Vitali Nevski/Artyom Novichonok; NASA/ESA/J.-Y. Li (Plan. Sci. Inst.)/Hubble Comet ISON Imaging Sci. Team; NASA/STEREO; ESA/NASA/SOHO

Satellite Locations: NASA/STEREO. Photographs, Left to Right: Vitali Nevski/Artyom Novichonok; NASA/ESA/J.-Y. Li (Plan. Sci. Inst.)/Hubble Comet ISON Imaging Sci. Team; NASA/STEREO; ESA/NASA/SOHO

وغالبية الأجرام والمُذَنَّبات التي ترعى حول الشمس تنتمي إلى عائلة ‘كروتز’ من المُذَنَّبات، التي سُميت تَيَمُّنًا بهينريش كروتز، عالِم فلكي عاش في القرن التاسع عشر، وقام بحساب كثير من مداراتها. ربما ترجع أصول مُذَنَّبات كروتز إلى مُذَنَّب واحد تحطَّم منذ آلاف السنين. وعند كل مرور قرب الشمس، إما أن تمر بصرير متجاوزة إياه وتنجو، أو تغوص في لظى الشمس؛ لتلقى مصيرها إذا اقتربت جدًّا. كل أسبوع أو نحوه، يشاهد باتامس أحد قطع المُذَنَّبات هذه وهي تتحول إلى رماد.

ومع ذلك.. ففي عام 2011، اقترب مُذَنَّب من نوع كروتز لمسافة 140 ألف كيلو متر فقط من سطح الشمس؛ ونجا مؤقتًا. وبعد أن أصدر أزيزًا وهو يمر عبر الغلاف العلوي للشمس، ظل المُذَنَّب «لف جوي» Lovejoy سليمًا متماسكًا، صانعًا عرضًا مشهودًا في سماوات الجنوب. انهار بعد أيام، وتحطَّم إلى شظايا بسبب قوى المد الناتجة عن سحب الجاذبية الجبارة للشمس. أخذ الباحثون قياسات غير مسبوقة من ذيل «لف جوي» المتأرجح في مجالات المغناطيسية القوية للشمس أثناء المرور الوجيز للمُذَنَّب عبر جو الشمس ( C. Downs et al. Science 340, 1196-1199; 2013).

وفي سبتمبر 2012، تحولت الأضواء إلى راع آخر حول الشمس، عندما اكتشف فلكيّان روسيان نقطة صغيرة في السماء في كوكبة السرطان. ولأن تليسكوباتهما كانت تنتمي إلى الشبكة البصرية العلمية الدولية، أُطلق على المُذَنَّب اسم «أيسون».

في ذلك الوقت، كان مُذَنَّب «أيسون» على بعد مليار كيلو متر من الشمس تقريبًا، بعد كوكب المشتري. كان هذا أبعد بكثير من معظم اكتشافات المُذَنَّبات، لأن المُذَنَّبات تصبح أكثر نشاطًا ووضوحًا كلما اقتربت من الشمس. ألمح الاكتشاف المبكر إلى أن «أيسون» إمّا مهول الحجم أو مدهش النشاط؛ ما أذكى التوقعات بأنه سيصبح مشهدًا تاريخيًّا في السماء عند وصوله إلى النظام الشمسي الداخلي.

ظهرت شكوك في إبريل من عام 2013، عندما صور تليسكوب الفضاء هابل المُذَنَّب «أيسون». ورغم أن فريق الرصد لم يمكنه قياس نواة المُذَنَّب مباشرة، إلا أن الباحثين خلصوا إلى كمية المياه التي ينضحها القلب الجليدي، التي تشير إلى أن عرضه قد لا يزيد عن ستة كيلومترات، أي أقل قليلًا من المتوسط.

لم يحدث قط أنْ شاهد الفلكيون مُذَنَّبًا ديناميكيًّا جديدًا يدنو بهذا الشكل من الشمس

جاءت فرصة أخرى لقياس المُذَنَّب في أواخر سبتمبر، عندما كان يطير مارًّا بالمريخ. عندما تأرجحت كاميرا تجربة التصوير العلمي عالية الدقة (HiRISE) على المسبار المداري للمريخ (MRO) – وهي أكثر الكاميرات دقة على الإطلاق تخطَّت مدار الأرض– كي ترى «أيسون»، وتلتقط مجموعة من الصور الفوتوغرافية المحببة بالأبيض والأسود. أسفر هذا عن تقدير أفضل للحجم، إذ قد لا يكون عرض «أيسون» أكثر من 1.2 كيلومتر. «كان شيئًا صغيرًا»، كما يقول كاري ليسه، الذي درس المُذَنَّبات في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جون هوبكنز في لوريل بولاية ميريلاند.

أقلق هذا الفلكيين. فكلما كانت نواة المُذَنَّب أصغر، كان احتمال نجاته أقل عند مروره قريبًا من الشمس. وحتى مع ذلك.. اعتقد بعض العلماء أن «أيسون» سوف يفعلها (انظر Nature http://doi.org/rdm; 2013).

بدأ مصير «أيسون» يتضح في الأيام التي سبقت وصوله قرب الشمس. ففي 20 نوفمبر الماضي، كان ينضح كمية هائلة من بخار الماء، بمعدل يشير إلي أن عرضه لا يزيد عن 500 متر. وبعد أيام قليلة، دخل في مجال رؤية رواسم الإكليل الشمسي الموجودة على توأمي الأقمار الصناعية لرصد العلاقات الأرضية الشمسية، أو مسبار ستيريو (STEREO)، التي على الجانب الآخر من الشمس من على الأرض. واصل المُذَنَّب السطوع، ثم خفت قليلًا، ثم سطع مرة أخرى، كما لو كان يتلظّى لهبًا بالفعل.

كلما اقترب من الشمس، بدا حال «أيسون» أسوأ. قال ماثيو نايت، عالم الفلك بمرصد لويل في فلاجستاف، بولاية أريزونا: «كنا مشدوهين صباح الاقتراب الوشيك». في 28 نوفمبر 2013، كانت أجازة عيد الشكر في أمريكا، حيث اجتمع نايت، وباتامس، وليسه في مرصد كيت بيك بولاية أريزونا؛ لمراقبة المُذَنَّب. كان نايت يأمل في استخدام التليسكوب الشمسي هناك؛ لالتقاط أطياف «أيسون» وهو يطير على بعد 1.2 مليون كيلومتر من الشمس. استيقظ مبكرًا جدًّا ـ (طالع الأرقام حول سطوع المُذَنَّب) ـ وأدرك أن المُذَنَّب خفت بين عشية وضحاها، متجاوزًا آماله. وقد تقلص إلى حجم لا دوام معه- ربما 50 مترًا – و كان على وشك التفتت إلى شظايا تمامًا.

لساعات.. قام الفريق ـ إلى جانب المعجبين بالمُذَنَّب في جميع أنحاء العالم ـ بمشاهدة «أيسون» وهو يطير مارًّا بمجال الرؤية لسوهو وستيريو. وازداد خفوتًا مع اقترابه من الشمس، ولم يعد ممكنًا رؤيته على الإطلاق بالمسبار الشمسي الثالث الذي يلقي نظرة أقرب على النجم. على الجانب البعيد من الشمس، حيث كان ينبغي للنواة أن تظهر، ظل «أيسون» سليمًا متماسكًا، حيث ظهر شبح سحابة من الغبار المتبقي، ما لبثت أن تلاشت بسرعة من المشهد.

تقَبَّل باتامس فقدان «أيسون» بشكل شخصي، «حقًّا، كان شيئًا انفطر له القلب». «وُلِدَ من 4.5 مليار سنة قبل الميلاد، وتفتت في 28 نوفمبر 2013»، هكذا كتب في نعيه على مدونة رصد «أيسون». «باقيًا على قيد الحياة بعد وفاة عدة تريليونات من الأشقاء، يترك المُذَنَّب «أيسون» وراءہ للفلكيين إرثًا لم يسبق له مثيل، والامتنان الأبدي لجمهور عالمي مفتون».

ذيل طويل

رغم خيبة الأمل، تحرك باتامس والفلكيون الآخرون بسرعة؛ لاستخلاص الدلائل والحلول من موت أيسون. لِمَ نجا مُذَنَّب «لف جوي»، رغم مروره أقرب كثيرًا إلى الشمس، بينما تحلَّل «أيسون»..؟ كان هذا لغزًا كبيرًا. والإجابة قد تكمن في التواريخ القديمة، كما يقول نايت.

ومن حيث انتمائه إلى عائلة مُذَنَّبات كروتز، فقد ارتحل «لف جوي» عبر النظام الشمسي الداخلي عدة مرات من قبل، حارقًا مكوناته الأكثر تطايرًا، لكن «أيسون» كان مُذَنَّبًا «ديناميكيًّا جديدًا» لم يسبق له مطلقًا أن زار هذه المنطقة من الفضاء. نزل مباشرة من سحابة أورط Oort؛ الخزان الجليدي للمُذَنَّبات خارج مدار بلوتو. وقضى معظم حياته في هذه السحابة، إلى أن وكزته جاذبية نجم عابر إلى مدار جديد، قبل بضعة ملايين من السنين (انظر: «رحلة نهاية»). وعند اقترابه من الشمس للمرة الأولى، بدأت الجزيئات المتطايرة تحلق بعيدًا عن نواته الجليدية. أولًا، احترقت المركبات العضوية البسيطة، مثل الميثان، وأول أكسيد الكربون، وتبعتها تلك الأكثر تعقيدًا، فيما يشبه كثيرًا شريحة لحم تُركت على مشواة مدة طويلة. كل هذا النشاط المبكر يفسر لماذا بدا «أيسون» ساطعًا جدًّا في البداية.

لم يحدث قط أن شاهد الفلكيون مُذَنَّبًا ديناميكيًّا جديدًا يدنو بهذا الشكل من الشمس. فالتتابع والمعدَّل الذي احترقت به جزيئات «أيسون» تمثل بيانات نقاط مهمة وإرشادية لفهم المُذَنَّب التالي الآتي إلى الداخل. يقول ليسه: «لقد تعلمنا أن المُذَنَّبات الديناميكية الجديدة تتطور وتتغير». إن ذلك أكثر ما احتال الفلكيون ليتعلموه في عام 2011 من المُذَنَّب «إلينين» Elenin الراعي حول الشمس، الذي كان زائرًا حديثًا نسبيًّا للنظام الشمسي الداخلي، لكنه كان خافتًا جدًّا على أن يزوّد بعلم قبل أن يلقى حتفه. وعلى نطاق أرحب.. قد تعمل تجربة «أيسون» كنموذج لحملات مراقبة المُذَنَّبات في المستقبل. إن سجلًا مكوَّنًا من 14 بعثة صورت المُذَنَّب من الفضاء، كما يقول ليسه، هو الذي قام بتنسيق حملة ناسا. وقد اشتملت على سطح عطارد، بيئة الفضاء، الجيوكيمياء، والمركبة الفضائية الجوالة «ماسنجر»، والمسبار المداري (MRO) للمريخ.

تلك التجربة ستوفر معلومات لحدث كبير في أكتوبر، عندما يمر مُذَنَّب «سايدنج سبرينج» Siding Spring على بعد 140 ألف كيلو متر من المريخ. ولسوف يكون أقرب مرور يُشاهَد على الإطلاق، وسوف يُلف الكوكب الأحمر فعليًّا في ذؤابة المُذَنَّب، أو حجاب الجليد والغبار حول النواة. وكالمناورة التي مورست مع «أيسون»، فإن مركبة مثل MRO تدور لتصوير «سايدنج سبرينج». يقول ليسه: «إنها مثل تحليق رخيص قرب مُذَنَّب».

 وبتكلفة أكثر، سوف ترسل وكالة الفضاء الأوروبية مركبة روزيتا؛ كي تهبط على المُذَنَّب «تشريموف-جيراسمينكو» 67P/ Churyumov-Gerasimenko في نوفمبر القادم (انظر: Nature 505, 269- 270; 2014). وبضم «سايدنج سبرينج» المعروف جماهيريًّا باسم CG، وفي أعقاب أيسون، وصف البعض عام 2014 بأنه عام المُذَنَّب.

وهذا يروق لباتامس، الذي يسلط عينًا حادة على كل ما قد يدخل مجال رؤيته المتمركزة حول الشمس. وهو يقول: «الآن، في حالة سكون وانتظار للشيء المثير القادم».