لماذا لم تتمكن ناسا من العثور على الطائرة الماليزية؟

نضال قسوم
لقد اعتبر بعض المعلّقين اختفاء الطائرة الماليزية مؤخرا” أكبر لغز في القرن 21″ (حتى الآن). وقد فتنت القصة (بل المسلسل) العالم بأسره، كما تجلّى ذلك من خلال التغطية الإعلامية العالمية للحدث على مدار الساعة. وحيّر اختفاء الطائرة الخبراء و الناس العاديين على حد سواء، حتى أنه في بعض البرامج الإخبارية على شبكة سي.أن.أن تم تداول سيناريوهات بعيدة المنال وغير عقلانية، من “مثلث برميودا” إلى الثقوب السوداء، وصار البعض يفكّر في تفسيرات فوق-طبيعية…
لكن السؤال الصحيح والمهم الذي تردد مرارا وتكرارا هو: “لماذا لم تتمكن ناسا من العثور على الطائرة الماليزية ؟” حيث أن ناسا تمثل، في ذهنية الجمهور العام، أعلى مستويات البراعة التكنولوجية البشرية. إن هذا السؤال مهم لأنه أولا يكشف عن ريب عميق لدى الجمهور تجاه قدراتنا التكنولوجية، بل أن “مزاعمنا” العلمية هي أيضا مشتبه بها. وفي الواقع، سألني العديد من الناس على تويتر كيف لي الدفاع عن “ادّعاء” وكالة ناسا الوصول الى القمر وإرسال مركبات فضائية الى أطراف المجموعة الشمسية، في حين أنها لا تقدر على تحديد موقع هذه الطائرة أو حتى القول في أي اتجاه سارت بعد فقدان أو قطع الاتصال بينها وبين محطات المراقبة الأرضية.
لقد قلنا فعلا للجمهور أن الإنسانية وضعت آلافا من الأقمار الصناعية في الفضاء، والبعض منها يستطيع رؤية أجسام على الأرض لا تزيد طولا عن حوالي 10 سنتيمتر. وقلنا أيضا أن كل متر مربع من كوكبنا قد تم تعيينه و يمكن عرضه من قبل أي شخص ومن أي مكان (باستخدام برنامجGoogle Earth ). وكنا سمعنا مؤخرا أن معظم المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني يتم تسجيلها وتحليلها من قبل بعض الشركات أو الوكالات. فكيف يمكن أن نفسر للجمهور أن كل هذه التكنولوجيا والقدرات غير قادرة على تحديد موقع طائرة طولها 60 مترا وتحمل 239 شخصا؟ !
حتى نتمكن من الإجابة على هذا السؤال المهم، لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق.
أولا ، لا يتم تعقّب الطائرات بواسطة الأقمار الصناعية، ولكن عن طريق الرادارات. و هناك مساحات واسعة من الأرض لا توجد فيها محطات رادار.
ثانيا، إن الطائرات تستخدم نظام GPS لتحديد مواقعها، ولكن لا يتم نقل هذه المعلومات إلى أي شخص أو مؤسسة. بعض الطائرات تحمل أجهزة تعقب، ولكن هذه لا تستخدم إلا إذا تم تشغيلها وكلّفت أقمار صناعية محددة بمهمة تعقّب طائرة ما.
ولقد قامت الشركة البريطانية إنمارسات، بأقمارها الصناعية الأحد عشر، بتتبع الطائرة الماليزية بعد حوالي ثلاث ساعات من اختفائها من الرادارات، وذلك عبر نظام بيانات على متنها يدعى “ايرو كلاسيك”، وهو ليس نظام تحديد مواقع من نوع GPS. بل إن أقمار إنمارسات هذه ليست مجهزة بنظام GPS . وقد أرسل أحد هذه الأقمار إشارة لا سلكية موجزة إلى الطائرة كل ساعة، وجاءه رد تلقائي ثماني مرات. ومن ذلك تمكن محللّو البيانات من تضييق مسار الطائرة الى طريقين، وكانت تلك عملية صعبة بالنظر الى الزوايا المختلفة التي كان يمكن للإشارات القادمة من الطائرة أن تأتي منها.
إن الأقمار الصناعية الثابتة بالنسبة للأرض مثل أقمار إنمارسات تدور على ارتفاع 36000 كيلومترا فوق الأرض. ولذا فإنها تغطي مساحات واسعة، ولكنها لا تستطيع رؤية أي قطعة أصغر من عشرات الكيلومترات. أما الأقمار التي توضع في مدارات منخفضة جدا (مئات الكيلومترات فوق سطح الأرض)، فيمكنها أن ترى أجساما صغيرة جدا (عشرات السنتيمترات)، ولكن المساحة التي تنظر إليها في أي وقت هي بضعة كيلومترات مربع فقط.
الآن، إذا انفجرت الطائرة في الجو، وباعتبار سرعتها العالية ووجود رياح قوية، وحسب عدد القطع التي تنقسم إليها، فإن شظاياها يمكن أن تتناثر على مدى مئات الكيلومترات مربع (وهذه مسألة جيدة من فيزياء مستوى الثانوية). وإذا سقطت الطائرة كقطعة واحدة، وحسب زاوية السقوط، فإنه يمكن أن تصل إلى قاع المحيط العميق، وربما تطفو بعض القطع الخفيفة منها. وهذا هو أساسا ما حدث لطائرة الخطوط الجوية الفرنسية 447، التي تحطمت في المحيط الأطلسي في ظروف مماثلة في يونيو 2009.
و أخيرا وليس آخرا، أظهرت صور الأقمار الصناعية أن محيطاتنا مليئة بالحطام والقمامات من جميع الأنواع، من صناديق بلاستيكية صغيرة الى حاويات كبيرة. والعثور على جسم ما بين جميع تلك المخلفات هو حقا مثل العثور على إبرة في كومة قش، كما يقول المثل.
لذلك لجأت شركة “ديجيتال غلوب” الفضائية، والشركة التابعة لها “تومنود”، إلى المتطوعين للمساعدة في تحليل صور الأقمار الصناعية الخاصة بها والبحث عن أي جسم قد يكون ذي صلة بالطائرة. فالبشر عادة قادرون على القيام بعملية فحص الصور أفضل من برامج الكمبيوتر. لكن مع ذلك تم إخراج عدد كبير من الحالات “الايجابية الكاذبة” (أي أجسام تبدو “جيدة” في الصور ولكن يتبيّن بعد التدقيق أنها “كاذبة”).
وماذا عن الصناديق السوداء الشهيرة التي تسجل جميع معلومات الرحلة ؟ أولا، تلك الصناديق ليست مجهزة بنظام GPS بحيث تسمح لنا بتحديد مواقعها (خاصة بعد سقوط الطائرة). ثانيا، تلك الصناديق ترسل إشارات يمكن التقاطها على بعد 2-3 كم، ولكن فقط لمدة 30 يوما أو نحو ذلك (نظرا لمحدودية طاقة البطارية لديها). في حالة الطائرة الفرنسية، مرت سنتان كاملتان الى أن تم العثور على الصناديق السوداء. ومن المرجح أن تعالج هذه النقائص التقنية ويتم تطوير الصناديق السوداء في المستقبل القريب.
إن اختفاء الطائرة الماليزية كشف لنا أن منظومة النقل والاتصالات والتكنولوجيا الفضائية في عالمنا هي منظومة هشة. لقد حققنا بالفعل تقدما هائلا خلال القرن العشرين، لكننا لا نزال محدودين في كثير من الجوانب. ولكن الحزن والإحباط الذي أصابنا في هذا الحدث المؤسف لا يجب أن يدفعنا إلى التقليل من شأن التقدم الذي أحرزناه أو، لا سمح الله، الى إدارة ظهورنا للعلوم والتكنولوجيا. بدلا من ذلك، ينبغي أن نعمل جاهدين على تحسين أنظمتنا وتصحيح أوجه القصور فيها.
ترجمة مقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الثلاثاء 1 أبريل 2014:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/why-couldn-t-nasa-find-that-plane-1.1312022