لماذا أدرّس الطلبة المسلمين نظرية التطوّر
إن تشجيع الطلبة على تحدي الأفكار أمر حاسم في محاولة إخراج جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية في الفكر
إن بعض المواقف الإشكالية التي تتّسم بها المجتمعات الإسلامية اليوم تجاه العلم الحديث قد تم تبنّيها من جراء عمليّتي العولمة والتحديث السريعين، ومن ذلك ما يتمثّل في رفض نظرية التطوّر. ولكنّ الأمر ذاته ينطوي على فرصة يمكن استثمارها.
أنا أدرّس نظرية التطوّر لطلاب الجامعات في الأردن. وأجد جميعهم تقريبا رافضين للفكرة في البداية. ففي الغالب يكون معلموهم في المدارس قد تجاهلوا النظرية أو تجاوزوا عنها. ومع ذلك، فإن لدى معظم الطلاب استعداداً لمناقشة نظرية التطور، ومع نهاية الفصل الدراسي، تكون الغالبية قد تقبّلت الفكرة.
وإذا كان بإمكان الطلاب المسلمين تحدي الأفكار التي تلقّوها حول مثل هذا الموضوع الأكاديمي المثير للجدل، فإنه يمكنهم أيضا مقاربة جوانب أخرى من حياتهم من خلال التفكير والتساؤل – وليس فقط القبول الأعمى للوضع الراهن. وهذه الأدوات والاتجاهات التفكيرية ذات أهمية حاسمة لتطوير شخصياتهم ولجعلهم مواطنين مسؤولين.
عودة الى تدريسي، يشعرالطلاب في صفوفي بالصدمة في كثير من الأحيان! أنا أرتدي الحجاب، ما يعني أنني ملتزمة دينياً، ولكنهم يسمعونني أؤيد نظرية التطور باعتبارها آلية تشرح تنوّع وتطوّر الأنواع، وأشير إلى تشارلز داروين بصفته عالماً ساهم في فهمنا لظهور الحياة وتنوّعها على الأرض. وأنا في أغلب الأحيان أول شخص مسلم التقوه يقول مثل هذه الأشياء.
وقد اشتكى بعض الطلاب لمسؤولي الجامعة أنني أدعو بما يعارض الإسلام، ولكنّ المسؤولين أبدوا رضاهم تجاهي عندما كنت أثبتت لهم أن نظرية التطوّر هي في الكتب الدراسية المعتمدة في الجامعة، وأن ما أدرّسه في محاضرتي يأتي مباشرة من هذه النصوص. أنا أثني على الطلاب الذين اشتكوا، وذلك لشجاعتهم في الدفاع عما يعتقدون، وقد دعوتهم للجلوس ومناقشة ما يجول في خواطرهم.
وفي تدريسي، أقدم شرحا مفصلا للتطوّر الطبيعي للنبات والاستنبات الاصطناعي. وفي وقت لاحق، نناقش المقاومة التي تكتسبها بعض البكتيريا للمضادات الحيوية، ولقاحات الأنفلونزا وتطوير عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية. بعد هذه المناقشات، فإنّ معظم الطلاب يكونون على استعداد لقبول التطوّر باعتباره آلية لظهور جميع الأنواع باستثناء البشر. فهنا يستشهد كثير منهم بآيات قرآنية يتم تفسيرها على أنّ آدم – وبالتالي كل البشر – قد تم خلقهم بشكل فوري. فتبقى مسألة التطوّر البشري من التابوهات، لأن الطلاب ليسوا على استعداد للتخلّي عن فكرة خلق البشر بشكل مختلف. ولكنني أذكّرهم أنّ المسلمين يجب أن يحذُروا من أن يكونوا متغطرسين، وأنّ البشر في الواقع هم فقط جزء من الخلق.
لقد قدّم علماء دين مسلمون، مثل حسين الجسر وأحمد مدحت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كتابات تدعم التطوّر. بل وحتى قبل داروين، كان الجاحظ وغيره قد اقترحوا نظريات تطوّرية بدائية في القرن التاسع. وأشير لطلبتي أنّ هذا التناقض الظاهري ما بين قبول نظرية التطوّر والالتزام بالإسلام لم ينشأ إلا في القرن العشرين، عندما أصبحت أفكار داروين مرتبطة في الأذهان بحقبة
الاستعمار والإمبريالية، والغرب، والإلحاد، والمادية، والعنصرية. وقد اتخذ علماء الدين المسلمون تدريجيا موقفا ضد نظرية التطوّر، وبالتالي تبنّى الجمهور موقفهم. بل وقد اعتمد علماء الدين المسلمون حجج المسيحيين الداعين بالخلق المباشر، ناقلين بذلك الحرب الغربية بين العلم والدين إلى ساحة الإسلام.
ويجادل بعض من طلابي بأن قبول نظرية التطوّر يعني إنكار وجود الله. ولكن ما أقوله هو أنّ نظرية التطوّر لا تناقش أصول الكون. لا أحد يفهم بعد هذه البداية. بالنسبة لي، الله هو البداية. بعد ذلك، فإنّ قواعد المنطق والعلم وما أودع من سنن كونية هي ما قادت تطوّر الكون وما تزال.
ومن خلال تجربتي، أجد أن كثيراً من المسلمين سعداء بهذا الطرح. ولقد التقيت العديد من العلماء المسلمين المتّفقين مع رؤيتي، ولكن لا يصرّحون بذلك علنا خشية أن يتّهموا بإثارة المشاكل. وبعض علماء الدين يبدون تأييدا أيضا، ولكنهم يرغبون بالتدرّج في تغيير الآراء، حتى لا يتّخذ الجمهور مواقف دفاعية وبالتالي يكون التقدم بطيئاً.
وكعالمة مسلمة، فإنّ رؤيتي هي أنّ القرآن الكريم يدعو البشر للنظر والتدبّر في العالم وطلب المعرفة. لكنّ دور القرآن ليس إثبات المكتشفات والنتائج العلمية. فالعلم هو الذي يسمح لنا بالبحث والكشف عن الطرق التي يعمل بها العالم، بينما يوفر القرآن الكريم المبادئ التوجيهية الأخلاقية للقيام بذلك. وفي حالة حدوث تناقض ظاهري بين الحقائق العلمية وتفسيرنا للقرآن الكريم، فعلينا بالعودة إلى كلّ من العلم نفسه (الذي يتطور) وتفسيرنا للقرآن الكريم (وهو عملية ليست محايدة، إذ هي ممارسة إنسانية) للفصل في هذا التناقض. إن هذا النهج لهو عملية مستمرة وانسيابية، ويشكل جزءا لا يتجزأ من منهج الحياة لدى المسلمين.
وسواء قبل الطالب نظرية التطوّر البشري أم رفضها، فإنّ ذلك لا يشكّل فارقاً لدي في كيفية التعامل مع ورقة امتحانه من حيث الدرجات التقييمية. فنحن كمدرسين، هدفنا هو دفع الطلاب ليصبحوا مفكرين مستقلين. فأنا لا أريد لطلابي أن يكتبوا أنهم يتقبّلون نظرية التطوّر فقط لاجتياز الامتحان. بل إنّ ما أريده هو إظهارهم الحجة التي استخدموها للوصول إلى نتيجتهم، حتى لو كان هذا الاستنتاج يؤدي الى رفض التطوّر البشري. أما إذا فعلت خلاف ذلك، فأكون كالذين ينتقدون التطوّر: يفرضون رأيا معيّنا على الآخرين.
إنّ هدفي هو تعليم الطلاب كيفية تطوير منهجية عقلانية لتقييم العالم الطبيعي وللتوصل إلى آرائهم وفرضياتهم ونظرياتهم الخاصة، وليس النقل والنسخ عن الآخرين. إنها دعوة لطرق جديدة للتفكير: رحلة إلى السعي وراء المعرفة، والتي تعدّ واحدا من مبادئ الإسلام الأساسية. وإذا نجحنا في هذا المسعى، فإننا سوف نساهم في خلق جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية التفكير.
د. رنا الدجاني