كيف نشرك عامّة الجمهور في الأبحاث العلمية
في مقالي السابق “لماذا لم تعد الأقمار الصناعية تلفت الانتباه ؟”، أكّدت أنّ المشاريع العلمية والتقنية الكبيرة مثل برنامج الإمارات العربية الفضائي (دبي سات وياه سات)، يجب أن تحوّل الى برامج ثقافية وعلمية وتعليمية واسعة. ذلك لأنّ المدارس والإعلام والمؤسسات الثقافية والجمهور العامّ يمكنهم أن يلعبوا أدواراً متنوعة، تتراوح بين المشاركة في البحث العلميّ ذاته ونشر الفوائد التعليمية والثقافية لتلك المشاريع.
ربما تتساءلون كيف يمكن للجمهور العام، وحتى للطلبة، المشاركة في أبحاث علمية متقدّمة؟
منذ سنوات طويلة الآن، ظهر هناك توجّه عالميّ واسع يعرف باسم “علم المواطن”، أو “علم المجتمع” (Citizen Science). وفي مثل هذه المشاريع يقوم الأشخاص المنخرطون فيها بجمع البيانات وتحليلها، ورصد ظواهر طبيعية عديدة، وتطوير الأدوات (خاصةً البرمجيات وتطبيقات الهواتف الذكية للمشاريع العلمية)، ونشر المعرفة الناتجة من تلك المشاريع في الآفاق الثقافية والتعليمية.
بعض مشاريع “علم المجتمع” هذه تكون “عرضية”، أي في مناسبات خاصة، مثل ” 10 ساعة من الفلك”، حيث تمّ تجنيد الجمهور العامّ لتصنيف مليون من المجرّات مأخوذة من قاعدة بيانات بحثية خلال مئة ساعة. مثال آخر هو “اليوم العالميّ لمراقبة المياه”، حيث يختبر الناس مصادر المياه ويوثّقون تقاريرهم في موقع إلكترونيّ موّحد. وتكون مشاريع أخرى مشابهة مستمرّة وعلى مدار العام مثل مشروع SETI@Home، وهو مشروع تتمّ متابعته منزلياً حيث يقوم أكثر من 3 ملايين شخص باستخدام برمجية لتحليل بيانات واردة من تلسكوبات متخصصة في البحث عن حياة خارج الأرض (SETI تعني البحث عن حياة ذكية خارج الأرض). ومثال آخر هو مشروع “متعة التشكيلات البروتينية ‘Protein-Folding Fun’) حيث يقوم المشاركون بلعبة تهدف إلى إيجاد تركيبات جديدة مستقرّة للبروتينات التي قد تفيد في علاج بعض الأمراض.
Alpha
يبدو أن البحث العلميّ يعود إلى نقطة الانطلاق خلال مسيرته المتصاعدة. لتوضيح ذلك دعونا نتذكّر أنّه إبّان الثورة العلمية، قبل عدة قرون، كان الكثير من الباحثين هم من الهواة الذين استكشفوا الطبيعة من جراء فضولهم العلميّ وحقّقوا اكتشافات عظيمة. مثلاً، اكتشف الفلكيّ الشهير وليام هيرشل وشقيقته كارولين كوكب أورانوس، وأنجزا مساهمات عظيمة في علم الفلك. فيما بعد أصبح البحث أكثر تعقيداً واقتصر على الأشخاص ذوي الخبرة الطويلة والحائزين على درجات علمية متقدّمة التي تمكنوهم من المشاركة في البحث العلميّ.
أمّا الآن، فإنّ المجتمع العلميّ قد أدرك أنه يمكن أن يفتح أبوابه ليستفيد من مهارات وموارد موجودة بكثرة لدى الهواة. في أيلول/سبتمبر الماضي أجرت قناة “بي بي سي” مسابقة “الهاوي العالم لهذا العام” والتي ترأسها السير بول نرس، وهو أحد الحائزين على جائزة نوبل.
لكن، ما الذي يجعل الهواة والطلبة مُفيدين للمشاريع العلمية؟
أولاً، لقد أصبحت أجهزة الحاسوب في وقتنا الحاضر بالقوة والثمن القليل، مما يجعلها توفّر للكثير من الناس في منازلهم قدرة حاسوبية تشابه ما لدى العلميين في مكاتبهم ومختبراتهم. ثانياً، لدى الناس العاديين متسعٌ من الوقت لتكريسه للكثير من العمليات “الروتينية” (مثلاً: التقاط الصور لمناطق في السماء، إجراء المقارنات بين الصور، أخذ عيّنات وقياس المحتويات الكيميائية، وغيرها). ثالثاً، يتمتّع الهواة بصبر رائع، وهو ما يمكن (بل ويجب) الاستفادة منه. على سبيل المثال، اكتشف ألبرت جونز، وهو رجل كنيسة، مذنّباً في العام 1946، وظل يبحث الى أن اكتشف مذنّباً آخر في العام 2001. مثالٌ آخر: كولين هينشو، وهو بريطاني مسلم التقيته في سلطنة عمان قبل عدة سنوات حيث كان يقيم، تمكّن من قياس لمعان كوكب زحل بعينيه المجرّدتين وسجّل تغيّرات اللمعان خلال الفترة 1971-2005. إن هذا المستوى من الصبر ليستحقّ مكانة في المجال العلميّ! وبالفعل، فإنّ هينشو أرسل نتائجه لمجلة فلكية (وأرسلها لي شخصياً)، وتمّ نشرها.
وعودةً لموضوعنا الأصليّ (البرنامج الفضائيّ للإمارات العربية ودعوتي لاستثمار تربويّ وثقافيّ أوسع)، دعونا نرى كيف يمكن لهذا النوع من “علم المجتمع” أن يطبّق وأن يتمّ من خلاله اعتماد مجموعة من الأنشطة المثيرة للاهتمام.
أولاً، تلتقط الأقمار الصناعية مثل “دبي-سات” عدداً لا يحصى من الصور للعديد من الأماكن (للاستشعار عن بعد ولعدد من الأغراض)، وسيكون من الجميل لو يتمّ وضع جزء من هذه الصور على موقع إلكترونيّ، حيث يحاول الطلبة استسقاء معلومات مفيدة منها. بالإضافة إلى ما يمكن أن تنفّذه الجمعيات الفلكية المحلية، مثل “مجموعة دبيّ الفلكية” المعروفة بنشاطها، التي يمكنها مثلا أن تطلب من أعضائها تحديد مواقع ورصد هذه الأقمار في ليال ٍ معيّنة.
هذه الفكرة هي التي طبقتها وكالة “ناسا” مؤخّراً حيث وضعت مشروعاً سمّته “My Nasa Data” (بياناتي لدى ناسا)، حيث يزوّد طلبة المدارس الابتدائية والثانوية بجزء من بيانات ناسا الضخمة، توضع على الموقع. فلم لا يكون هناك لدينا مشروع مماثل، أي “My UAE Space Data” (بياناتي لدى البرنامج الفضائي للإمارات العربية)؟ أيضاً، أطلقت ناسا قبل بضعة أسابيع، مسابقة جماهيرية لمدة يومين باسم “تطبيقات الفضاء”، حيث يقدّم العامة تطبيقات برمجية علمية أو تعليمية لمساندة مشاريع الفضاء. فلم لا نقيم “المسابقة العربية للتطبيقات العلمية / الفضائية” ؟
إنّ العلم والتكنولوجيا والبحث ستقود للتطوّر والتقدّم فقط عندما تصبح أنشطة متبنّاة بشكل واسع وكامل من قبل المجتمع، وليست محصورة فقط في هيئات متخصصة. إنّ هذا يتطلّب تعاوناً بنّاءً وكاملاً وتآزراً بين مطوّري المشاريع وشرائح المجتمع الأخرى، مثل المدارس والإعلام والمساجد والمتاحف، إلخ. ولنكن حريصين على مشاركة كلّ شخص وإدماج أكبر قطاع ممكن، بحيث يتم تعظيم فوائد تلك المشاريع الطموحة.
د. نضال قسوم
ترجمة أ. بسمة ذياب