“تنبؤات” التنجيم ليست سوى تخمينات غامضة
نضال قسوم
عندما يأتي عام جديد، تكثر كتب التوقعات الفلكية في المتاجر وتكرّس العديد من الصحف صفحات خاصة لـ”ما تقوله النجوم”…وأنا، الفيزيائي-الفلكي، يظنني الناس أحياناًمنجّما، فيسألونني عما تحمله السماء لنا في السنة الجديدة …
في الأسبوع الماضي، أدهشتني صفحات “التنبؤات الفلكية” العديدة التي ظهرت في بعض الصحف المحلية، فقررت أن أتوقف لحظة للنظر فيها، ثم قمت بمقارنة سريعة بين تنبؤات بعض المنجمين “الروّاد”. سأخبركم بما وجدت بعد حين…
اسمحوا لي أولا أن أؤكّد على أن التنجيم ليس ظاهرة اجتماعية هامشية، بل إنه يؤثر على أعداد كبيرة من الناس في جميع أنحاء العالم، من العامة إلى المسؤولين الكبار. فمن المعروف أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق ريغن، تحت تأثير زوجته، كان يستشير منجما في تحديد مواعيد أنشطته المختلفة.
وتشير دراسات إحصائية حديثة أن حوالي 25 ٪ من البالغين في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وكندا يؤمنون بصحة التنجيم، مع تفوّق عدد النساء على الرجال بشكل كبير (أحيانا بالضعف). وبينما تتقلص أعداد الناس الذين يؤمنون بالتنجيم ببطء بفضل التعليم، وجدت البحوث التي أجريت بين طلاب إنجلترا في عام 2000 أن جميعهم يعرفون أبراجهم، و 70 ٪ منهم يقرأونها بانتظام، و 85 ٪ من هؤلاء يجدون الأوصاف التي تقدّم عنهم متناسبة مع شخصياتهم …
دعونا الآن ننظر عن كثب في التنجيم – وكيف يجب تمييزه عن علم الفلك !
علم الفلك (مجال تخصصي العلميّ) هو علم وصف وشرح الظواهر التي تحدث في السماء والكون، بما في ذلك الشمس والقمر، والكواكب والنجوم، والمجرات والكون بأسره. وهو يعتمد المنهجية العلمية، بما تتضمّنه من المشاهدات المتكررة والمنتظمة، والنمذجة الرياضية، والحسابات المتقدمة، مما يجعل تنبؤاته دقيقة وقابلة للفحص والتأكيد أو الردّ عن طريق تجارب وقياسات جديدة.
أما التنجيم فهو وصف لشخصيات الناس وتنبؤ بأحداث الحياة (مثلا “غدا لن يكون مناسبا للمعاملات المالية بالنسبة لك”)على أساس مواقع الشمس والقمر والكواكب بين الأبراج (والأبراج هي مجموعات نجمية معروفة). ويبني المنجّمون سمعة بضاعتهم بين الناس على الصورة العلمية التي يقدّمون بها تنبؤاتهم، وذلك باستخدام مصطلحات علمية وحسابات (لمواقع الأجرام) ورسومات وأشكال معقّدة، لكنهم عندما يواجَهون بالانتقادات (كما سأبيّن) يلحّون على أن ما يقومون به ينبغي ألاّ يُخضَع لمعايير العلوم الصارمة.
الآن، لماذا يسخط علماء الفلك على التنجيم؟
أولا، إن التنجيم يتحدّى المنطق والحسّ السليم بتقديم تنبؤات يومية للناس وفقا لاثنتي عشرة فترة شهرية حسب تواريخ ولادتهم. فإذا وُلِدتُ في نفس الفترة الزمنية مع جاري، أو إذا كان عيد ميلاد شخص ما من قارة أخرى في نفس الأسبوع الذي وُلِدتُ فيه أنا، فستكون أحوالنا عموماً متشابهة يوماً بعد يوم،أسبوعا بعد أسبوع، شهرا بعد شهر، سنة بعد سنة! بل إن القاعدة الأساسية للتنجيم تجعلنا نشترك في نفس السمات الشخصية أيضا!
وحسب المنجّمين، أنا في برج العذراء،الذي يوصف بالمثالية والواقعية (وهذا تناقض) والإخلاص والصبر، ولكن أيضا بالانتقائي، والمتحرّك باستمرار، وغير القادر على إثبات الأشياء، والمبالغ في دفع النفس…
ولكن، وهذا أحد الانتقادات الأساسية على التنجيم من قبل علماء الفلك، فإن الفترات الزمنية التي يعتمدها المنجّمون (تلك التي نجدها في الصحف الكتب) هي خاطئة تماما. ذلك لأنّ التنجيم لا يزال يعتمد مواقع الأجرام بالنسبة إلى النجوم كما كانت الأمور منذ ألفي سنة أو أكثر، أي في الأيام الأولى للتنجيم. ولكن تغيُّر اتجاه محور الأرض (في حركة بطيئة تتم على مدى قرون وآلاف السنين) قد أدّى الآن إلى تغيُّر في تواريخ تواجد الشمس في هذا البرج أو ذاك. .
لذلك، وهنا بيت القصيد (وهو مقصد رئيسي في نقاشنا)، فتاريخ ولادتي (6 سبتمبر) يضعني في برج العذراء وفقا لجميع الأبراج التي يتم نشرها اليوم، ولكن وفقا لعلم الفلك يجب أن أكون في برج الأسد، حيث كانت الشمس عند ولادتي! ولهذا، فبدلا من الشخصية التي ذكرتُها أعلاه بالنسبة للعذراء، ينبغي أن توصف شخصيتي باللطف والقلب الكبير، والطبيعة الحيوية، والتفاؤل، والصدق والولاء، كما يفترض أن أتّسم بالغيرة، وحب التملك، والأنانية وبالميل نحو السيطرة. ومن جهة أخرى، يكون يوم الحظ عندي هو يوم الأحد بدل الأربعاء…
وقد أشار علماء الفلك إلى مشكلات خطيرة إضافية في التنجيم. من بينها أنّ المنجمين ليسوا فقط مختلفين حول كيفية “تأثير” الكواكب في حياتنا، بل إنّ كلّ ما تمّ اقتراحه يمكن إثبات انعدام فاعليته أو ضعفه الشديد.
وعلى وجه الخصوص، ينبغي الانتباه إلى أنّ التأثير الجاذبيّ للكواكب على جسم المولود الجديد أضعف بكثير من تأثير طبيب أو ممرضة التوليد (إذ لحظة الولادة هي اللحظة الحاسمة عند المنجمين).وبالمثل، فإنّ المجال المغناطيسي لا يفسر “تأثير” الكواكب علينا، إذ الزهرة والمريخ خاصة ليس لديهما مجالات مغناطيسية.
وعجيب أيضا كيفية تعامل المنجّمين مع الاكتشافات الجديدة للكواكب. فنبتون و أورانوس وهما كوكبان كبيران، اكتُشِفا فقط في عامي 1781 و 1846، على التوالي، وتم اكتشاف بلوتو في عام 1930 ولكنه أنزل من قائمة الكواكب إلى قائمة الكوكب القزمة في عام 2006 ، في حين تمّ اكتشاف كواكب قزمة أخرى أكبر من بلوتو، ولكنّ الأبراج لا تزال تذكر “تأثير” بلوتو وتتجاهل الأجرام الجديدة (مثل أيريس) تماما.
ولم يكتف العلماء بإثارة هذه التناقضات، بل أجروا دراسات إحصائية دقيقة للبحث عن أي علاقة بين أبراج الناس وميولاتهم. فقد تمّ فحص بيانات الآلاف من السياسيين والموسيقيين والعلماء وأصحاب المهن الأخرى بحثا عمّا إذا كان هناك تناسب بين أبراج معيّنة وتوجّهات الناس… لكن لم يُعثًر على شيء.
وأخيرا وليس آخرا، و رغم أنّ هذا لا يتطلب أيّ علم خاص لكي نلاحظه، فإنّ توقّعات التنجيم يغلب عليها الغموض وأحيانا التناقض.
فمثلا، وفقا لـ”شيلي فون شترنكل” (المنجِّمة الشهيرة)، وباعتباري في برج العذراء، فإنّ سنة 2014 بما ستأتي به، ستحتاج مني ما يلي: “أن أوازن المتطلبات العملية والمالية، وذلك بالخوض في مجالات جديدة، حيث سأجد فائدة ما سأتعلمه…”، ولكن “لوري باوم”، وهي منجِّمة بارزة في كاليفورنيا تتوقع لي ما يلي: “إن دخول بلوتو في برج الجدي سيساعدك على كشف الإبداع المدفون لديك… وستكون الأمور المالية مضطربة في عام 2014″…لا عجب أن الجميع يرى مثل هذه التوقعات متناسبة مع حياته، فكما ترون، يغلب الغموض على هذه “التنبؤات”….
ولكن كما شرحتُ أعلاه، أنا في الحقيقة في برج الأسد، وهنا تنصحني “فون شترنكل” بالتالي: “ستكون الأيام صعبة، خاصة في النصف الأول من السنة… ولتحقيق أهدافك سوف تحتاج إلى الجمع بين الفضول والاستعداد للخوض في تجارب جديدة بالنسبة لأهدافك ونمط حياتك أيضا…”، ولكن صفحة التنجيم في جريدة “لاتن-تايمز” الأمريكية تبشّرني بالعكس: ” يبدو أن 2014 هي السنة (الرائعة) بالنسبة لك… رغم أن النصف الأول من السنة سيكون هادئا و خاليا من الأحداث…
لكن لماذا لا نأخذ التنجيم بمرح بدون إخضاعه لصرامة العلم؟
أولا، لأنه في حين اعتمد المنجمون مؤخرا “المعنى الرمزي” لما يرونه في السماء، فإنهم كثيرا ما ادّعوا ( ولا يزالون ) أنّ التنجيم هو علم، إذ لديه متخصّصون وكتب يتم تدريسها في معاهد بمستوى جامعي، إلخ. وعلاوة على ذلك، فإنّ معظم الناس لا يعرفون الفرق (الجوهري) بين التنجيم وعلم الفلك؛ وفي الثقافة الإسلامية حيث يحرّم أي ادعاء بمعرفة المستقبل أو الغيب، فإننا نجد علم الفلك منبوذا عند الكثيرين إلى يومنا هذا بسبب ذلك الخلط.
ثانيا، وربما الأهمّ من ذلك، من الخطورة بمكان إعطاء مكانة خاصة للتنجيم ودوره في حياة الناس. فمن يؤمن بالتنجيم يصبح قدَريا، إذ لا يرى سبيلا لتغيير الأحداث، بل ولا حتى شخصيته، ما دامت محدّدة بالأجرام السماوية… بل أكثر من ذلك، نجد بعض الناس يتخذون قرارات مهمة على أساس ما تقوله الأبراج. على سبيل المثال، ورد أن بعض النساء الحوامل رفضن حُقَن إحداث الولادة (التي تعطى للحامل عندما تتأخر ولادتها) لأنهنّ لم يردن للمولود تاريخ ولادة يضعه في برج “سيئ”!، وكذلك انفصل كثير من المخطوبين بعد أن اكتشفوا أن أبراجهم “غير متوافقة”.كما أنّ هناك عددا لا يحصى من المعاملات والاستثمارات المالية التي اختاروا لها توقيتاً سيئاً على أساس التنجيم.
وإذا كان أمرالتنجيم خاطئا و خطيرا الى هذا الحد، فلماذا هو بهذه الشعبية؟
أولا، لأنّ الناس يلاحظون فقط الحالات التي تتوافق فيها تنبؤات التنجيم مع الأحداث (بل إن هذا هو ما أدى الى ظهور التنجيم أصلا قبل آلاف السنوات، عندما كانت تصادف وفاة ملك أو انتصار في معركة حدوث ظاهرة سماوية معيّنة)، ولكنّ الناس يتجاهلون كلّ الحالات التي لا يحدث فيها ذلك “التوافق”.
ثانيا، وهو الأهمّ، يرى الناس الحياة بتشابكات وعلاقات معقّدة للغاية، وبالتالي لا يرون التأثيرات الكونية التي يقول بها المنجِّمون معقولة فقط، بل محتملة جدا، ويبدو لهم كلام المنجّمين علميا ومؤسسا، فيصغون لهم…
إنّ هذا الموضوع هو مجال يجب أن يتعاون فيه المعلمون والمربّون وعلماء الفلك وذوو التأثير في وسائل الإعلام لتحقيق فهم أكبر لجوانب الموضوع المختلفة. يجب تمييز ما هو فنيّ أو ثقافيّ أو تاريخيّ عن ما هو علميّ ومنهجيّ ودقيق. إنّ التعليم هو ما يمكن – بل يجب – أن يساعد في توضيح الصورة لدى الناشئة لوضع حدّ لتلك الالتباسات بين مجالات وأنشطة لا يجوز أن يتمّ فيها مثل ذلك الخلط…
ترجمة مقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الخميس 2 يناير 2014
http://gulfnews.com/opinions/columnists/predictions-or-plain-guesswork-1.1272875