العلم المغزول على طريق الحرير
يقيّم كريستوفر إ. بِكويذ دراسةً حول الإسهام الجوهري لعلماء بلاد ما وراء النهر في العصر الذهبي للإسلام.
توجد ما بين أوروبا والشرق الأدنى، وجنوب آسيا وشرقها، منطقةٌ فقيرة ومتخلفة بدرجة يُرثَى لها. أمّا منطقة وسط آسيا، التي نعرفها باسم «بلاد ما وراء النهر»، أو آسيا الوسطى ـ وتضم أفغانستان، وأوزبكستان، وتركمَـنستان، وطاجيكستان، وتركستان الشرقية (شِينجْيانج حاليًا) ـ فقد قامت بدور جوهري في تاريخ العالم وتطوُّر ثقافته وعلومه قبل العصر الحديث. فالخوارزمي عالِم الرياضيات والفلكي ـ على سبيل المثال ـ هو مَنْ وضع الأسس المنهجية لعلم الجبر، وأدخل النظام العشري إلى عِلْم الحساب، وقد اشتُقّ اسم اللوغاريتمات (أو الخوارزميّات) من اسمه (اسمه اللاتيني: Algorithmus). وكما يقول فريدريك ستار في كتابه «التنوير المفقود» Lost Enlightenment، كانت بلاد ما وراء النهر حاضرةً غنية ومتقدمة وزاخرة بالسكان في منتصف القرن السابع الميلادي حين وصلت جيوش المسلمين الأولى إلى ميرف، وبَلْخ «المدينتين الأم»، اللتين تقعان الآن في دولتي تركمَـنستان، وأفغانستان، بالترتيب.
وخلال العقود التالية، عبرت جيوش المسلمين نهر جيحون إلى بُخَارَى، وسمرقند، وخوارزم. وفي أقل من قرنين أصبح أغلب علماء هذه المنطقة من المسلمين. وقد سادوا الحياة الفكرية في العالم الإسلامي بأكمله، الذي كان ممتدًّا حينها من إسبانيا إلى الهند، وقدموا إسهامات عظيمة في العلوم الطبيعية، والطب، والفلسفة، والموسيقى، والأدب. فالكتاب الكبير عن الموسيقى للفيلسوف الفارابي أصبح ـ كما يقول ستار ـ «حجر الأساس لعِلْم الموسيقى الغربية». كما اعتمد الطب الغربي لعدة قرون على أعمال الرازي، أعظم طبيب فيزيائي إكلينيكي حتى بداية العصر الحديث، وأوّل مَنْ وَصَفَ مرض الجدري بدقة.
يقول ستار إنّ الثقافة المزدهرة لهذه المنطقة كانت مستنِدَة إلى خليطٍ من الأعراق واللغات والأديان، وتراثٍ فكريٍ عريقٍ ممتدٍّ إلى ما قبل الإسلام (متأثر بالديانة البوذيّة في أغلبه)، وازدهارٍ كبير. يرجع هذا الازدهار ـ بصورة أساسية ـ إلى الهندسة الهيدروليكية عالية التقنية، فقد طَوَّر سكان ما وراء النهر تسعة أنواع من الآلات للري، ومياه الشرب، والحمامات العامة. وبعد عام 1100 ميلادية، يدَّعي ستار أن عصر التنوير تَراجَع بفعل هجمات عدة على «المنطق والفكر»، قادها الصوفي والفيلسوف القديم أبو حامد الغزالي.
وفي وقت ما في القرون الوسطى، نقل سكان أوروبا الغربية العلومَ من العالم الإسلامي المجاوِر، وامتزج ذلك مع ما نقلوا من علوم وحضارة ما وراء النهر؛ الأمر الذي أسهَمَ في تأصيل هذه المعرفة، وإكسابها المنهج العلمي الشكلي؛ مما ساعد على ازدهارها وانتعاشها في أوروبا، بينما كان العِلْم يحتضر في العالم الإسلامي.
من المعروف على نطاق واسع أن أعظم العلماء والفلاسفة والشعراء والفنانين في العصر الذهبي للإسلام كانوا من بلاد ما وراء النهر، وتمت دراسة أو ترجمة القليل من أعمالهم، مثل العمل الإثنوجرافي الشهير للبيروني عن الهند. وكتاب ستار هو أوّل كتاب يحَدَّدَ أشهر علماء هذا العصر ويضعهم في إطار بلاد ما وراء النهر باعتبارهم منتمين إلى آسيا الوسطى، ويتناول إنجازاتهم بالتفصيل.
وخلال فترة الريادة الفكرية للمنطقة ـ التي استمرت ثلاثة قرون ـ كانت اللغة الأدبية السائدة هي اللغة العربية الكلاسيكية (باستثناء تركستان الشرقية، أو «شينجْيانج» التي أصبحت مسلمة لاحقًا). وليس السبب في ذلك ـ كما ادَّعى البعض ـ أن المسلمين دمّروا مكتبات خوارزم، وهو ادِّعاء يكرِّره ستار، رغم أن فيلهيلم بارتهولد أوضح في عام 1928 أنه مجرد حكاية شعبية. والسبب هو أنه في أغلب مناطق العالم قبل القرن السابع، نادرًا ما كان الناس يستخدمون الكتابة في التدوين. وفي ظل حكم المسلمين، أصبح الناس يؤلفون ويكتبون كثيرًا باللغة العربية؛ فانتشرت متاجر الكتب فيما وراء النهر. ويَحكي ستار كيف طارَدَ أحدُ تجار الكتب ابن سينا في الشارع في بُخَارَى؛ من أجل التفاوض على مؤلَّف للفارابي عن كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو. وقد وضع ابن سينا نفسه بعد ذلك العديد من الكتب المهمة، ويُعَدّ أحدها من أشهر نصوص العِلْم الطبيعي تأثيرًا في أواسط العصور الوسطى، وهو كتاب «البصريات» للرياضي اليوناني إقليد De Visu، الذي تُرجِمَ إلى اللاتينية عن العربية في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي في طُلَيْطِلَة بإسبانيا، حيث قام بالترجمة الفيلسوف اليهودي إبراهيم بن داود، ودومينيك جونديزالفو.
ويرى ستار أن الوحدة اللغوية للعرب أدَّت إلى ازدهار العلوم والفلسفة في ظل الإسلام بشكل أساسي باللغة العربية. وللأسف، يَستخدِم ستار مصطلحه الخاص «المُـتَـفَرْسِنِين» ليشير إلى غير الفرس من بلاد ما وراء النهر، وهو ما يوحي بأن غالبية المنطقة كانت «فارسية» لغةً وثقافةً. والواقع أنها لم تكن كذلك، فالفُرس (في المنطقة التي تمثِّل الآن إيران) كانوا غائبين بصورة واضحة، حتى أوشك العصر الذهبي على الانقضاء، حسبما يؤكد ستار ذلك.
بتسمية كتابه «التنوير المفقود»، يرفض ستار بشجاعة المَزاعِمَ التي تنفي انحدار الحضارة الإسلامية، ولكنه يتجاهل المؤلفات الأخيرة التي تفجِّر الأساطير حول كون سكان سهول أوروآسيا «الأوراسيين» مقاتلين معتدين، ويشير ـ بصورة غير مباشرة ـ إلى أن جنكيز خان حاول ارتكاب إبادة جماعية لسكان ما وراء النهر. وبرغم ذلك.. يرفض ستار بإصرار النظرية التي تتهم المغول بالتسبُّب في بدء التدهور الفكري، فيقول إن ذلك حدث قبل غزو التتار بقرنٍ كامل، إذ كانت الضرائب والتجارة آنذاك تَصُبّان الذهب في خزائن حُكّام ما وراء النهر، الذين توقفوا عن استثمار المال في الحياة الفكرية. وبعد أن خسر الحكام الحربَ العظمى ـ أو بعد حدوث غزو المغول، الذي تتفق المصادر التاريخية على أن دولة الخوارزميين هي التي بدأته ـ فشلوا تمامًا في إعادة إعمار دولهم.
إجمالًا، يتألق ستار في الفصول الأساسية، التي قدَّم فيها الإنجازات الرائعة لفلاسفة وعلماء ما وراء النهر، حين كان موطنهم هو العاصمة الفكرية الإبداعية للعالم.
كريستوفر إ. بَـكويذ