الإنترنت، هل يزيدنا ذكاءً أم غباء ؟
نضال قسوم
لا شكّ بأنّ شبكة الإنترنت قد غيّرت أسلوب حياتنا بطرق متعدّدة ومهمة، لا سيّما في مجالات المعلومات والمعرفة والاتصالات. إن التوفّر الفوريّ للكثير من المنتوج الفكري للإنسانية، وتسارع تناول المعلومات بيننا قد غيّر بشكل كبير طرق العيش لدينا، بل ومن المحتمل أيضاً طرق التفكير لدينا.
هناك تصوّر واسع بأن نمط الحياة الرقمية هذا قد جعلنا أكثر غباءً بشكل عام. وتؤكّد وجهة النظر هذه أولا على الانحدار الحادّ في قدرة التركيز لدى الناس؛ فقد انتقلنا من الكتب إلى المقالات، ثم إلى التدوينات ومنها إلى التغريدات (“تويتر”)، وإلى الرسائل النصية القصيرة والدردشات السريعة عن طريق الهواتف المحمولة. ثانيا، يبدو أننا أصبحنا غير قادرين، أوعلى الأقل غير راغبين، بتذكّر أي شيء، حتى الحقائق البسيطة عن العالم، ما دمنا نستطيع البحث والحصول عليها فوراعن طريق “غوغل”. ثالثا، لقد زادت الإنترنت من تسطيح المعلومات وتميّع الخبرات، ما دام كلّ منا يستطيع إضافة “معرفته/ها” الخاصة بأيّ موضوع كان، الأمرالذي يزيد من صعوبة تمييز البضاعة الأصيلة الجيّدة (القليلة) من ذلك الكثير الفاسد.
و بالفعل، لقد ظهرت مؤخرا مجموعة من الكتب حول هذا الموضوع : “أغبى جيل (The Dumbest Generation): كيف يخدّر العصر الرقميّ الشباب الأمريكيّ ويهدّد مستقبلهم”، و”الضحالة (The Shallows): ماذا يفعل الإنترنت لعقولنا- ولعقول غيرنا”.
لكن في الآونة الأخيرة، بدأت الأفكار المعاكسة تنتشر أكثر وأكثر، ومن ذلك ما احتواه كتابان صدرا هذا العام: “أكثر ذكاءً مما تعتقد (Smarter Than You Think): كيف تغيّر التكنولوجيا عقولنا نحو الأفضل”، و”التقدم اللانهائي (Infinite Progress): كيف يمكن للإنترنت والتكنولوجيا أن يقضيا على الجهل والمرض والجوع والفقر والحرب”.
دعوني أعرض عليكم باختصار حجج فريق “الإنترنت تجعلنا أكثر ذكاءً”. إنّ أنصار هذا الرأي يذكّروننا في البداية بأنّ كلّ تكنولوجيا جديدة كانت قد اعتُبِرت في حينها أنها بداية النهاية للحضارة. الحكيم سقراط اشتهر بكرهه للنص المكتوب، وعبّر عن ذلك بمقولته “المعرفة المخزّنة ليست معرفة على الإطلاق”. كذلك التلفاز، فلطالما نظر إليه كجهاز سطحيّ يحطّ من قدرتنا، بالرغم من تأثيره الإيجابي الواسع فيما يتعلّق بنقل المعلومات بسرعة (من خلال الأقمار الصناعية وعرضها للأخبار العاجلة وتأثير ذلك على الناس في أماكن بعيدة)، وفي التعليم (حيث هناك بعض القنوات المتخصصة في التعليم سواء كان ممنهجا أو غير ممنهج، ومثل الأفلام الوثائقية الممتازة).
في الواقع، كلّ شكل من أشكال التكنولوجيا، بما في ذلك النصوص والفيديو، دائما ما تأتي بتأثيرات إيجابية وسلبية في نفس الوقت. حتى القراءة، والتي غالبا ما ينظر إليها كنشاط ذي قيمة عالية، هي في الواقع نادرا ما تكون مرادفة للثقافة الراقية؛ فالمكتبات تمتلئ بالكتابات الطائشة أكثر مما فيها من الأدب القيّم.
وبالرغم من ذلك، فإنّ ثمة من يقول بأنّ العصر الرقميّ قد أتى بتطورين مهمين جديدين، يفترض أن يدفعانا الى الأمل أكثر من القلق على مستقبل الإنسانية. أولا، نحن الآن لا نمتلك فقط إمكانية الوصول الفوريّ إلى المنتوج الفكريّ الجماعيّ للبشرية، بل إننا نمتلك أيضاً عقلا مترابطا يجمع بين أجزاء المعلومات المختلفة ويساهم في معالجة مشاكلنا (المرض والجهل والفقر والتطرف، الخ.). ثانيا : يبدو أننا نستطيع ربط أدمغتنا والتفاعل تلقائيا مع كل المعلومات التي يمكننا الاستفادة منها.
النقطة الأولى تسلط الضوء على الإمكانيات الاستثنائية التي تقدمها “المعطيات الكثيرة” (big data). على سبيل المثال، اذا كنا نستطيع الحصول على جميع الحالات الطبية المسجّلة للبشر خلال العقود أو الماضية، وجعلناها في متناول أيدي الأطباء في كلّ مكان، فلا بدّ أن يلاحظ أحد الباحثين ظاهرة ما، أي شيئا جعل العلاج ينجح مع مريض ما في حالة معيّنة. وبهذا ستتحوّل الاكتشافات من العرضية الى المخططة، وذلك بالاعتماد بشكل أساسيّ على التنقيب المنهجيّ في البيانات المتوفرة، للوصول إلى اكتشافات جديدة لصالح البشرية.
أما النقطة الثانية أعلاه فتبيّن كيف أصبحنا الآن أفضل في تحريرعقولنا من مهمة للتخزين والتذكّر (إذ لم يعد أحد يحتفظ بنصوص كاملة في ذاكرته)، بل نحوّلها إلى نظم ربط وتحليل المعلومات، حيث يحتاج المرء فقط إلى معرفة كيف وأين يجد البيانات الأنسب عن كل موضوع محدد، وكيفية ربط المعلومات والمفاهيم معا.
أما نقّاد هذا الطرح فسيعتمدون على دراسات مسحية تبيّن أننا صرنا نقرأ بمعدّل أقلّ، ونضيّع الكثير من الوقت على هواتفنا “الذكية” وشبكات التواصل الاجتماعيّ. وسيستشهد البعض بدراسات تثير نظرة تشاؤمية هنا أو هناك. ولكن في مثل هذه المواضيع، غالبا ما يمكن للمرء أن يجد دراسات تدعم أيّ ادعاء كان، ومن السابق لأوانه الاستنتاج إذا ما كان هنالك أيّ تأثير سلبيّ على أدمغتنا. وعلى أي حال فقد أثبتنا نحن البشر أننا ننجح دائما في التأقلم والإستفادة من أي تطور جديد…
إنّ إدراكنا للكيفية التي يمكن للإنترنت أن تغيّر بها طريقتنا في التفكير كان له الأثر البالغ في نهجنا التعليميّ على وجه الخصوص. لقد لوحظ أنه عندما يطلب من التلاميذ أن يقوموا بنشر مقالاتهم (أو حتى مسوّداتها) على مواقع الإنترنت ليراها الجميع، فإنهم يبذلون جهدا أكبر عليها ويقدّمون منتوجا أعلى جودة. وعليه فإنه لربما يجب أن نطلب دوما من التلاميذ نشر مقالاتهم بدلا من تسليمها للأستاذ على ورق. كما و ينبغي على المدارس والجامعات أن تركّز أكثر على تعليم الطلبة كيفية العثور على المعلومات وغربلتها وتمحيصها و كيفية تحليلها بدلا من “تعلّم” كميات كبيرة من المعلومات.
على صعيد آخر، فإنّ منهج الـ”ويكي” (مثل الويكيبيديا)، الذي يعتمد على العمل الجماعي في إنتاج مشروع ما، ومبدأ التبادل المفتوح والإستخدام الحر (open-source) للبرامج والتكنولوجيا الرقمية، هي الأنماط الجديدة من التعاون قد أعادت إشعال روح الإنسان التعاونية لدينا، ولربما ينبغي تعميم ذلك النهج في مناحي الحياة الأخرى.
لقد أصبح العالم الرقميّ متصلا تماما بأدمغتنا، على المستوى الفرديّ والجماعيّ، وبدلاً من التحسّر على ذلك فإنه ينبغي علينا أن نفهم مختلف الآثار والانعكاسات وأن نحاول الحصول على أفضل ما فيها.
ترجمة أ. جولفيدان العباسي ومراجعة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الجمعة 11 أكتوبر 2013: http://gulfnews.com/opinions/