علم الفلك في العالم العـربي ‏- من الانطلاقة في العصــر ‏العبّاسي إلى النّهضة في القـرن الحادي والعشرين

بعث علم الفلك في العالم العربي زمن فجر الخلافة

إن علم الفَلَك حظي باهتمام كبير ومتواصل في الثقافة العربية؛ جاء ذلك بدواع علميّة ذات طابع دينيّ، لأن تحديد القبلة أمر ضروري لإقامة الصّلوات في مواعيدها بدقّة ممّا أدّى إلى الاهتمام بصناعة المزاول لقياس الوقت، وإلى ظهور ما يسمّى باسم علم الميقات الّذي يهدف إلى حساب مواقيت الصلاة، ومحاولة تحديد بداية رمضان وتواريخ الأعياد. وقد عرف العرب جهود علماء الحضارات القديمة في الفلك، وحاولوا تدقيقها وإعادة النّظر فيها وتجاوزها إلى مزيد من المعرفة الدّقيقة. وقد دفع هذا الاهتمام إلى نقلِ كتب الأمم الأخرى إلى اللّغة العربيّة. فكانت التّرجمةُ عن اللّغة اليونانيّة أو السَّنْسِكريتية أو السُّريانية أو الكَلدانيّة من أُولى الإنجازات الرّئيسيّة التي قام بها المسلمون في العلوم الكونيّة بعامّة، وعلم الفَلَك بخاصّة.  وكان لمؤلَّفات إقليدس وأرخميدس وبطليموس الأثرُ الكبير على تفكير العاملين بحقل الرّياضيات، والفَلَك، والجغرافيا، لسنين عديدة. كما شجّع الخلفاء العبّاسيّين الحركة العلميّة وأنفقوا عليها الأموال وكان علم الفلك قد حضي بعناية فائقة حتى أصبح وسيلة الوصول إلى الخلفاء هو معرفة علم الفلك ونجومه [1].

وقد سعى الخليفة أبو جعفر المنصور إلى بعث علم الفلك مستعينًا في ذلك بطائفة من علماء الهند؛ ففي سنة (154هـ/ 770م) حضر إلى بغداد عالم هنديّ ذو رواية واسعة بعلم الفلك مصطحبا معه كتابا في الفلك باللغة السّنسكريتيّة يسمى ” السدهنتا ” او ” السد هانت ” ألّفه أحد علماء الفلك الهنود وقد عرف الكتاب بعد ترجمته إلى العربيّة بكتاب ” السند الهند ” ويشتمل على مقدمّة وجيزة مرفق بها عدد من الجداول الفلكيّة في تحركات الأجرام السّماوية وطلوع ومغيب البروج وقد حسبت هذه الحركات على أسس دورات زمنيّة تضمّ آلاف السّنين.

تأكّد اهتمام المسلمين بالتّجارب العلميّة الفلكيّة من خلال كثرة بناء المراصد الضّخمة والمزوَّدة بالآلات المتنوِّعة والعلماء المتفرِّغين، والتي كانت منتشرة في العالم الإسلاميّ؛ فبخلاف المراصد التي أنشأها المأمون على جبل قَاسيون في دمشق، وفي الشماسيَّة في بغداد، فقد توالى بعد ذلك إنشاء المراصد في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي؛ فأقام أبناء موسى بن شاكر مرصدًا في بغداد، وفيه استخرجوا حساب العرض الأكبر، وكان مرصد مراغة ببلاد فارس الذي بناه نصير الدّين الطّوسي من أشهر المراصد وأكبرها، واشتهر بآلاته الدّقيقة وتفوُّق المشتغلين فيه، وقد امتازت هذه المراصد بالدقَّة، واعتمد عليها علماء أوربا في عصر النّهضة وما بعده في بحوثهم الفلكيَّة. وإلى جانب تلك كانت توجد مراصد أخرى، مثل: مرصد ابن الشّاطر بالشّام، ومرصد الدِّينَوَرِيِّ بأصبهان، ومرصد ألغ بكبسمرقند، وغيرها كثير]2[ .

وقد استعان العلماء المسلمون في هذه المراصد بآلات وأجهزة ومعدات غاية في الدقَّة وجمال الصنعة يعرفون بها الظّواهر الفلكيَّة، وكثير من هذه الآلات كان من اختراع علماء المسلمين ولم تُعرف من قبلهم، وذلك مثل: ذات الأوتار، وذات الحلق، وآلة الربع المجيب، والربع المقنطر، وذات الشّعبتين، وذات السّمت والارتفاع والحلقة الاعتداليَّة، وأنواع مختلفة من المزاول والمشخّصات لقياس الوقت. كما استعان المسلمون أيضًا بآلات من اختراع الحضارات السابقة، وذلك مثل الأَسْطُرْلاَب، الذي احتفظ باسمه اليوناني، وقد طوَّره المسلمون وصنعوا منه نماذج عديدة، فاخترعوا الأسطرلاب الكرويّ، وأيضًا الزورقيّ، وما زالت كثير من متاحف العلماء تحتفظ بنماذج من هذه الأسطرلابات، وهي تستخدم في قياس ارتفاعات الكواكب عن الأفق، وتعيين الزمن

ومن الأعمال المجيدة والإنجازات الرّائعة التي عملها المسلمون، وتتعلَّق بعلم الفَلك، وجديرةٌ بالذِّكر -تطويرُهم للمزاول الشمسيّة؛ إذ استخرجوا علاقةً أَمْكَنهم بها حسابُ مواقعِ أرقام جميع ساعات النهار على لوحة المزولة، ومعرفة أنصاف السّاعات وأرباعها، وحتى الدّقائق، وذلك بعد أن جرَّبوا معادلاتٍ رياضيّة بحساب المثلَّثات الكرويّة… وقد صنَّف البعضُ في المزاول، نذكر منهم: أبا الحسن علي المرَّاكشي، فقد صنَّف كتابًا فيها، ذكر فيه أصناف المزاول ومنافعها، وقد دخلت هذه المزاول إلى أوروبَّا عن طريق الأندلس.

ومن إنجازات المسلمين الفَلكية كذلك: الرَّسم على سطح الكرة، واكتشافهم كلف الشمس الّذي هو عبارة عن مساحات داكنة نوعا ما على سطح الشّمس تكون حرارتها أبرد من الأجزاء السّطحيّة الأخرى [1].

نهضة علم الفلك في العالم العربي في العصر الحالي

أمام ما يحققه العالم المعاصر من إنجازاتٍ وكشوفٍ متلاحقة ومتسارعة في جميع المجالات وبالأخصّ تلك المتعلَقة بالعلوم الفلكيَّة وأمام تباين مستوى العلوم بالعالم العربي مع عصره الذّهبي، الذي استمرّ من أوائل القرن التّاسع إلى نهاية القرن السّادس عشر ونظرا إلى الحاجة الماسَّة لمواكبة هذه التَّطوَرات في مجال التَّكنولوجيّات والحثّ على النّهضة في مجال العلوم الفضائيّة والفلكيّة على وجه الخصوص لتجاوز الهوّة الواضحة والجليّة في هذا المجال وفي رصد ومتابعة مسارات الأجرام السّماويّة والنّيازك التي تمرّ قريبا من كوكبنا وفوق منطقتنا التي تعتبر ثقبا أسودا.

وأمام المشكلة التي تقف حائلاً دون تطوّر علم الفلك لدى العرب اليوم، وهي نقص الخبرة في إدارة المشروعات العلميّة الكبرى، وهي عنصر ضروري لعمل المراصد والمراكز البحثيّة بفاعليّة. وإذا نظرنا للعدد القليل من التلسكوبات الكبيرة والتي أقيمت في المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية لوجدناها ضعيفة الاستخدام، بل وأحياناً غير مستعملة بالمرّة، ونتائجها العلميّة شحيحة. كما أنّه اليوم، لا يوجد في العالم العربي بأكمله مرصد فلكي يحوي تليسكوبًا بقُطْر يزيد على متر واحد، سوى مرصد القطامية بمصر، الذي لا ينتِج سوى القليل جدًّا من الأبحاث القابلة للنشر. [3]

ومن هذا المنطلق وأمام الحاجة الملحّة إلى المرور فورا إلى بدأ العمل على تسريع هذه المساعي نحو تجاوز هذه الهوّة ومواكبة التّطوّرات في مجال علم الفلك والّذي بدوره يحفّز نحو اكتساب التّقنيات والتّكنولوجيّات الأخرى، وبعد المبادرة الأولى لعالم الفضاء الأستاذ الدّكتور نضال قسّوم، الّذي قضّى سنوات كباحث في وكالة ناسا ويدرّس حاليّا في مجال فيزياء علوم الفلك  بالجامعة الأمريكيّة بالشّارقة، والّتي تعتبر رائدة وفريدة من نوعها لتحديد أكثر المواقع في الشرق الأوسط ملاءمة لإنشاء مراصد لدراسة النجوم[4] وكان ذلك رفقة ثلّة من طلبته، فقد تمّ تكوين فريق عمل ثان من خبراء وباحثين في مجال علم الفلك وعلوم المناخ والبيئة لإنجاز مشروع تحديد مواقع بناء وتركيز مراصد فلكيّة بالاعتماد على تقنيات ومعطيات دقيقة لكلّ بلد عربي ويليها في مرحلة ثانية تمكين أصحاب القرار من دراسة متكاملة ودقيقة لبناء هذه المراصد.

أهداف المشروع:

تمّ تحديد أهداف هذا المشروع من طرف فريق العمل الذي يترأّسه الأستاذ الدّكتور نضال قسّوم، وقد تمّ الاتفاق على النّقاط التّالية:

– تحديد ثلاث مناطق مرتّبة تفاضليّا لكلّ بلد من بلدان الشَرق الأوسط وشمال افريقيا

– ترتيب تفاضلي عامّ لكلّ المناطق المختارة

– تقديم ملفّ لكلّ منطقة مختارة يتضمّن الخصائص المناخيّة والتّصوّرات اللاّزمة للمعدّات والاحتياطات الأوّليّة الخاصّة بصيانتها.

– حثّ أولي الأمر على تبنيّ هذا المشروع القيّم من خلال تقديم هذه الدّراسة العلميّة

– تسهيل تركيز المراصد لكلّ بلدان المنطقة من خلال انجاز هذه المرحلة الأولى الهامّة

      الوسائل الهيكليّة للنّهضة

يرى الأستاذ الدّكتور نضال قسوم أن المنطقة العربية بإمكانها أن تستعيد مكانتها في مجال الفَلَك، خاصّةً على المستوى البحثي، إذا وجدت الإرادة والطموح لذلك[3]. ومن أهمّ الوسائل الّتي تمكّن من تسريع هذه الصّحوة، والتي تعتبر الدّعامات الأساسيّة لذلك، نعرض هذا التّصوّر:

– بعث وكالة فضاء عربيّة

– انجاز مرصد فلكي يضمّ عدّة تلسكوبات ويكون منارة عصره من حيث إمكانيّاته وخصائصه

– تنسيق بين بلدان المنطقة لبناء مَراصِد في مناطق متباعدة من حيث التّوزيع ومتكاملة من حيث الأداء

– تجاوز مرحلة الدّراسات والنّظريّات إلى التّطبيقات الفعليّة

 خاتمة

إنّ هذه المبادرة للحثّ على انشاء مراصد فلكيّة بالعالم العربيّ لهي جدّ هامّة ومجدية وخاصّة لو تمّ انجاز مرصد فلكي ضخم يكون منارة بالجهة ويمكّن من استعادة الثّقة للمنافسة ومسايرة العلوم الدّوليّة من خلال الإصدارات والبحوث وممّا يسهم أيضا في اكتساب مهارات وتقنيات وصناعات الكترونيّة في مجالات الإعلاميّة وتطوير وتوسيع دراسات علوم الفضاء في الجامعات العربيّة على غرار نظيراتها الغربيّة وكذلك في إعادة المكانة المرموقة لعلم الفلك في الثّقافة العربيّة.

 رضا القابسي              @RidhaGuebsi

Références

  1.   إنجازات المسلمين في علم الفلك      د. عبدالله  حجازي              03 Novembre 2012        http://www.alukah.net/library/0/45930/
  2.  إسهامات علماء المسلمين في الفلك         د. راغب السرجاني           01 Mai 2006
  3. Guessoum, N. Astrophysics: Time for an Arab astronomy renaissance. Nature 498, 161–164 (2013) http://islam-science.net/حـان-الوقـت-لنـهضـة-فلكـيـة-عربيــة-1180
  4. N.Guessoum and al. Preliminary search for astronomical observatory sites in the MENA region. The Observatory 134: 339-347                          December 2014