الدّروس المستخلصة من مهزلة “الأرض لا تدور“…

نضال قسوم
غولف نيوز – 24 فبراير 2015
الأسبوع الماضي، انتشر بسرعة رهيبة فيديو من ثلاث دقائق لرجل دين سعودي، وتمت مناقشة محتوى الفيديو في جميع وسائل الإعلام (التقليدية والاجتماعية) من لندن إلى أستراليا. بالفعل، كان الموضوع والمحتوى صادمين: “الأرض لا تتحرّك”!
جاء ذلك على لسان الشّيخ بندر الخيبري الذي  تحدّث في تجمّع لطلاّب جامعيين في الإمارات العربية المتّحدة، قائلاً بأنّ الأرض لا تدور حول نفسها ولا تدور حول الشّمس. والأكثر إدهاشا هو أنّه قدّم “أدلّة”  دينية وعلمية على كلامه، إذ أكّد أنه لو كانت الأرض تدور لما تمكّنت الطائرة أبدا أن تصل إلى الصّين، بل ما يكون على الطّائرة إلا أن ترتفع وتقف عموديا وتنتظر الصين لتأتي تحتها ! وليس هذا فقط، بل أضاف: “ويقولون إنّهم ذهبوا للقمر، لكنّ كل ذلك مجرّد ادعاءات هوليودية”.
ولا نحتاج أن نشير الى إن وسائل الإعلام قامت بالاستهزاء من هذا الكلام، ناشرة لمقالات معنونة بـ”أنسوا كوبيرنيكوس”، “افسح المجال يا غاليليو”، “عالم دين سعودي “يثبت” أنّ الأرض لا تدور”، “عالم دين سعودي يصرّح بنظرية جديدة مذهلة”، إلخ. ولمعرفة مدى انتشار ذلك الفيديو يكفي ذكر أنه على اليوتيوب فقط تمّت مشاهدة التسجيل 170 ألف مرّة في أوّل خمسة أيّام من نشره، وأما البحث عن “الخيبري + الأرض” على غوغل فقد أعطى 88200 نتيجة.
لكن لم تكن كلّ الحوارات والتعليقات حول ذلك الفيديو على سبيل السخرية والتهكّم، بل كان هناك أيضاً نقاشات جادّة، وقد تمّ طرح العديد من القضايا، مثل: هل هذه  الحالة التي نحن بصددها مجرّد حالة خاصّة أم هي وجهة نظر واسعة الانتشار؟ هل نجد هذا النّوع من الجهل فقط في الثقافة العربية الإسلاميّة اليوم، أم نجده أيضا في مجتمعات وثقافات أخرى؟ هل من الأفضل أن نتجاهل هذا النوع من الطرح أم علينا أن نردّ على “أدلّته”؟ لماذا يفتقر هذا المحاضر للمعرفة العلمية الأساسية؟ ما الذي ينبغي القيام به لمنع مثل هذه الأمور (حيث يتعرّض طلاّب جامعات إلى تعليم مضلّل بهذا الشكل)؟ إلخ.
ولتوضيح الأمور، يجب أن نشير أولا إلى بعض القضايا: إنّ أي شخص مطّلع على الكتابات الإسلامية المعاصرة يدرك أنّه في الوقت الذي يعتبر فيه مثل هذه الطرح الشاذّ نادرا بين العلماء المسلمين، فإنه يوجد أيضاً عدد من رجال الدّين السّعوديين البارزين، أمثال الشيخ الشهير ابن باز، والشيخ التويجري، والشيخ الفوزان، وغيرهم، الذين سبق وأن أصرّوا على أن الأرض ساكنة، وأنه لا يجوز القول بدوران الأرض أو تدريس ذلك. وقد صدرت فتاوى بهذا الشّأن، لكن تمّ تجاهلها وتم تدريس جميع الطلبة دوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس كباقي الكواكب في كل مكان بما في ذلك المملكة العربية السّعودية.
لكننا شهدنا في السّنوات القليلة الماضية عودة لهذا الطرح، من خلال تصريحات لبعض رجال الدّين المصرّين على تفسير القرآن الكريم حرفيا، والذين يعتبرون العلم الحديث مجرّد خطة غربية تسعى لفرض التصوّر المادي للعالم.
هذا النوع من الطرح الأصولي، المعادي للعصرنة وللحركة العلمية، جد مقلق لأنّه يخيّر الشّباب المسلم بين العلم والإسلام، وبالفعل فقد رأينا مقالات نشرت في الإمارات العربيّة المتّحدة خلال الأسبوع الماضي معنونة بـ”العلم والدّين ليسا دائما متوافقين”. وإذا كان هذا صحيحا فنحن أمام خيارين أحلاهما مرّ: فإمّا أن يتبنّى الشّباب شكل تفكير إسلامي منغلق ويرفضون العلم الحديث (أي نهج داعش) أو يختارون العلم والحداثة ويتركون الدّين جانبا.
لقد حاول بعض المعلّقين التّقليل من شأن تلك التّصريحات ووجهات النّظر الشاذة، مشيرين إلى استطلاع للرّأي جرى مؤخراً يظهر أنّه حتّى في الولايات المتّحدة هناك 25% من النّاس يعتقدون أنّ الشّمس تدور حول الأرض وليس العكس. لكن في حقيقة الأمر هذه اعتقادات تنم عن جهل ولا تقدّم على أنها “معرفة دينية” يتم الدفاع عنها من طرف رجال دين وتعرض أمام طلبة جامعات. وحتّى الأقليّة الصّغيرة في الغرب التّي تؤمن بأنّ العالم لا يزيد عمره عن حوالي 6000 سنة، اعتماداًعلى قراءة حرفية لـ”الكتاب المقدس”، ليس لها أي تأثير يذكر في الإعلام أو في الجامعات.
الآن، هل يجب ببساطة تجاهل هذه التصريحا ؟ لا أعتقد ذلك. بالعكس، نحتاج لمناقشة كل هذه التّصريحات علناً وبحجج قويّة لإقناع الطّلبة والعامّة. وإلاّ فإن الكثير من الشّباب سيتعرّضون فقط لوجهة النّظرالشاذّة تلك، بل وقد تم بالفعل اقتناع الكثيرين منهم بها حينما لم يسمعوا بالحجج المعارضة لها. من المؤسف أنّنا مضطرون، ونحن في القرن الحادي والعشرين، إلى أن نوضّح للناس دوران الأرض، ولكننا لا نستطيع المخاطرة بانتشار الفكر الأصولي أكثر.
لكن لماذا يجهل البعض من علماء الدّين ما يتمّ تدريسه من مثل تلك الحقائق العلمية الأساسية في المدارس الإبتدائية؟ أعتقد أنّ ذلك عائد إلى المنهج المنغلق والذي عفى عليه الزّمن ولكن لا يزال يلقّن في العديد من المدارس والمعاهد الإسلاميّة، على الأقل في بعض الدّول (المملكة العربية السّعودية وباكستان).
إنّ إصلاح المناهج هو ضرورة ملحّة، يتم بموجبه تقديم العلوم الأساسيّة (علم الفلك، الجيولوجيا، البيولوجيا) للعلماء المسلمين المستقبليين. ليس هذا فحسب، بل يجب أيضا تعليم التأويل (التفسير الحصيف للنّصوص الدينية) وطرق التّحليل النّقدي، حتّى يتعلّم رجال الدّين كيفية التّعامل مع الموضوعات التّي قد تحتمل تناقضات ظاهرية (بين العلم والنص). في الحقيقة، إن نهج التفسير الحرفي للنّصوص المقدّسة (في الإسلام وفي الأديان الأخرى) قد أنتج آراء ومواقف خطيرة في مختلف الموضوعات التّي تخصّ المجتمع والثّقافة.
لو كان الخيبري قد حظي بدراسة بعض أساسيات الفيزياء وعلم الفلك، ناهيكم عن مختلف التأويلات لما استشهد به من آيات قرآنية، لما كان قد ذكر “أدلّته” المضحكة على عدم دوران الأرض حول نفسها أو حول الشّمس.
كلّ يوم تظهر لنا مجالات جديدة تتطلّب المزيد من العمل والتعاون بين المدرّسين، والعلماء، وخبراء الإعلام، وعلماء الدّين، فالجهل وانغلاق الفكر لم يعودا مختبئين، بل لقد انفجرا في منطقتنا.
ولذا فإننا نحتاج لتركيز الجهود بشكل أكبر لما فيه مصلحة أجيالنا المستقبليّة.
ترجمة أ. جهاد حسام الدّين صوالح محمد ومراجعة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز يوم الثلاثاء 24 فبراير 2015:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/lessons-learned-from-the-earth-does-not-rotate-debacle-1.1461385