على المسلمين أن لا يخشوا العلم
نضال قسوم
من الملاحظ أنّ اتجاهاً جديداً قد تطوّر ونمى بسرعة في العالم العربي متّخذاً موقفاً سلبياً تجاه العلم يتمثّل في رفض كثير من الناس بعض حقائق المعرفة العلمية على أساس أنها آتية من الغرب (الذي ” لا يمكن الوثوق به”) أو أنها تخالف منطوق الإسلام والقرآن (حسب فهمهم). فحقائق مثل كرويّة الأرض، وأنها تدور حول الشمس (وليس العكس)، وأن كوكبنا وكوننا قديمان جداً (بعمر بلايين السنين) كلها حقائق مرفوضة اليوم من طرف آلاف إن لم يكن ملايين من الناس في عالمنا العربيّ والإسلاميّ.
إنّ حقيقة كرويّة الأرض معروفة منذ 2500 سنة على الأقلّ، بل ولم يكن أيّ مسلم، ذي تعليم جيد خلال العصر الذهبيّ للحضارة العربية الإسلامية، يعتقد أن الأرض مسطّحة. في الحقيقة، فإنّ البيروني (ومنذ حوالى 1000 عام) قاس محيط الأرض بدقّة تبلغ 99.7 % مقارنة بالقيمة المقبولة اليوم. ومع أنّ الفلكيين العرب والمسلمين لم يقدّموا نموذجاً لمركزية الشمس وواصلوا الاعتقاد أن كلّ الأجرام السماوية تدور حول الأرض فإنّ مؤرّخي العلوم يناقشون إلى أيّ مدى اقترب فلكيو المسلمين من نموذج مركزية الشمس، بل واحتمالية تأثيرهم في الفلكيين الأوروبيين الذي توصّلوا في نهاية المطاف إلى أنّ الشمس هي المركز وليس الأرض.
لقد واصل العلم إماطة اللثام عن الكون المدهش والمثير والمختلف تماما عما يخبرنا به حدسنا وما كان أجدادنا ومعلمونا القدامى يعتقدونه وينقلونه للجيل التالي. لقد اكتشفنا ضخامة الكون: فهو يتألف من تريليونات المجرات التي تحتوي كلّ منها على مئات البلايين من النجوم، ومعظمها لديها كواكب تدور حولها، وما الأرض سوى إحدى هذه الكواكب. وإذا تصوّرنا الشمس بحجم غرفة، فإنّ الأرض ستكون بحجم كرة تنس الطاولة، وسيكون الكون بقطر 1 مليون بليون كيلومتر! وفي المقابل، إذا تصوّرنا الكون بحجم الأرض، فإنّ كوكبنا سيكون بحجم نواة الذرّة أي أصغر بمائة ألف مرة من الخلية، والتي هي بدورها 100 ألف مرة أصغر من الإنسان.
لقد كان الاعتقاد القديم أنّ البشر والأرض والكون كلهم خُلقوا قبل زمن قصير نسبيا، أي قبل فقط بضعة آلاف من السنين، لكن بتنا نعلم اليوم أنّ الكون قد خُلق قبل 13.8 بليون سنة، أما الأرض والشمس وبقية النظام الشمسي فقد ظهرت (وتطوّرت تدريجيا) قبل حوالي 4.6 بليون سنة، وأنّ البشر (كما نعرفهم اليوم) ظهروا فقط قبل حوالى مائتي ألف سنة. وحتى نقدّم تصوّرا للمقياس الزمني لهذه الأحداث العظيمة فلنمثّل تاريخ الكون باعتباره عاماً واحداُ (كما لو كان الكون خُلِق في 1 يناير)، فيكون تشكّل الأرض والنظام الشمسيّ في 1 سبتمبر، وظهور البشر في 31 ديسمبر الساعة 11:52 مساء!
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أشارت اكتشافات “الكواكب الخارجية” (الكواكب حول النجوم الأخرى، خارج نظامنا الشمسي) إلى أنه يجب أن يكون هناك حوالي 10 بلايين من الكواكب شبه الأرضية – في مجرتنا وحدها. ومع أننا لم نجد حتى الآن أيّ كواكب مشابهة حقا للأرض (بدرجة حرارة معتدلة وغلاف جوّيّ وماء سائل، إلخ)، ناهيك عن العثور على أيّ شكل من الحياة (نباتات أو حتى بكتيريا) في أيّ مكان، فإن هناك اعتقاداً على نطاق واسع بوجود أشباه الأرض ولا بدّ لها أن تُكتشف قريباً، بل وربما ستُكتشف الحياة عليها بشكلها البدائيّ على الأقلّ.
يمكن للمرء أن يعطي العديد من تلك الأمثلة التي تصف مدى حجم الكون الكبير والعدد العظيم من الكواكب والنجوم والمجرات التي يحتويها، وتُظهر كم أنّ البشرية حديثة العهد في ظهورها قياساً لكلّ ما في الكون، ما قد يجعل المرء يخلص إلى أنّ العلم يبيّن لنا أننا حبّات مهملة ونكِرة في هذا الكون الهائل، مؤدّياً بنا ربما إلى رفض العلم وقيم الحداثة والعقلانية والرؤية العالمية.
لكنّ تلك ليست هي القصة الكاملة، والاقتصارعلى ذلك الاستنتاج سيكون أمراً متسرعاً جدا. في الواقع، هناك حقائق أخرى كشفها العلم تخبرنا أنّ الكون ووجودنا فيه مميّزان، ولتوضيح ذلك دعوني أقدّم بعض الأمثلة.
في حين أنّ حجم الأرض والبشر من الضآلة بمكان، فإنّ الحياة نادرة للغاية في الكون، وقد نكون نحن الجنس الوحيد الممتلك للذكاء والوعي في مجرّتنا. في الواقع، أظهرت الاكتشافات الأخيرة أن المادة العادية (التي نتشكّل منها نحن البشر والأرض والأشياء الأخرى في الطبيعة) تشكّل 5 في المئة فقط من الكون، والباقي هو من “المادة المظلمة” أو “الطاقة المظلمة”. ونحن نعلم اليوم أيضا أنّ الكون منضبط خاضع لشروط دقيقة سمحت بظهور الحياة والذكاء والوعي. فلو كانت وحدات بناء الكون (الجسيمات وما إلى ذلك)، والخصائص الكونية (سرعة الضوء، وقوة الجاذبية، إلخ)، والقوانين الفيزيائية، مختلفة قليلا عما هي عليه، فليس فقط أننا لن نكون هنا، بل لن تكون هناك كواكب أو نجوم، أو خلايا أو كائنات حية، بدائية أو ذكية! وهكذا نفهم الآن لماذا الكون هو بهذه الضخامة، إذ يستحيل أن يكون أصغر بكثير: فهو قد تضخّم (منذ الانفجار العظيم حتى اليوم) حتى وصل لحجمه الحالي على مدى بلايين السنين التي آلت في نهاية الأمر إلى ظهور الإنسان. إنّ كوناً بحجم أصغر بكثير مما هو عليه الحال الآن لا يمكنه أن يحتوي حياة ذكية، إذ لن يكون قد مرّ زمن كاف لتطوّر الحياة وظهور الإنسان على رأس هرمها.
إنّ ما نتعلمه من هذه الاكتشافات هو: أولا، أنّ الكون أكثر إدهاشاً مما يمكن أن نتصوّر، وهذا بالنسبة للمسلمين والمؤمنين مصدر كبير لتمجيد الله؛ ثانيا، أنه في حين يتوجّب علينا ألا نفكّر في “مركزيتنا” بالنسبة للكون، فإنّنا (والحياة بشكل عام) ذوو مكانة وأهمية.
ينبغي، إذن، ألا يخشى المسلمون العلم. صحيح أنه يمكن أن يكشف عن عالم بخصائص مختلفة عما قدّمه التصوّر التقليديّ في الثقافة الإسلامية لكنّه لن يضعضع الإيمان، بل بالعكس، فالقرآن يدعونا للسير والاستكشاف بلا قيود: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق” (سورة العنكبوت، الآية 20).
كما يجب على المسلمين ألاّ يترددوا في تحديث معارفهم وتجديد رؤيتهم للعالم. إنّ العلم والعقل عطايا رائعة وُهِبناها؛ فلنستثمرها بعمق وثقة، وقد أثبت تاريخ عالمنا العربيّ المجيد أن دينه وثقافته وحضارته يمكن أن تحتضن العلم وكلّ معرفة حقيقية من أيّ مصدر أتت ومن أيّ مَعين فاضت.
ترجمة أ. بسمة ذياب للمقال الصادر بجريدة عرب-نيوز يوم الإثنين 21 سبتمبر 2017: http://www.arabnews.com/node/1166831/columns#