قصة الكون – توطئة
“عندما تهيج حولنا العواصف العارمة، وتكون الدولة مهددة بالزوال،
ليس هناك أنبل من أن نرسي على دراسات هادئة تبقى إلى الأزل.”
كبلر
التحدي المزدوج
كتاب حول الكون موجه للجمهور العام وباللغة العربية! إن هذا التحدي المزدوج يبدو بلا شك كمراهنة. أولا، وبحيث أن موضوع الكون (محتواه وتطوره) موضوع شيّق، إلا أن تبسيطه محفوف بكثير من الصعوبات وربما المخاطر، وكل المراجع المتوفرة والمعتمدة في الموضوع مؤلفة باللغات الأجنبية… وغير مترجمة (في سوادها الأعظم)، وهذا ما يفسر كون تفصيله بلغة الضاد يعتبر – حسب علمنا – سابقة. ثانيا، إن تأليف كتاب ما لا يحدث في فراغ ثقافي، بل ينتج من البيئة وتفاعلاتها. ولكن للأسف نشهد في عالمنا العربي فقر- بل انعدام – الحياة العلمية بمختلف أشكالها، وتتسبب قلة الأكسجين الثقافي في ضيق لذهن المؤلف والقارئ معا… أضف الى ذلك تعقيدا آخر يتمثل في تذبذب المصطلحات العلمية العربية في المجالات المتقدمة، الأمر الذي يجعل المؤلف يضطر إلى تقمص دور “المجتهد اللغوي”.
لمن يتوجه هذا الكتاب؟
إننا نقدم هذا الكتاب إلى كل من له اهتمام بالكون بشتى جوانبه، التاريخية، العلمية، الدينية، الفلسفية، الخ… فموضوعه هو هذا الكون العظيم المترامي الأطراف، الملهم بالخشوع من خلال روعته (“ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك“)، وربما “المخيف” في شساعته (الذي جعل الفيلسوف الفرنسي باسكال (Pascal) يصرخ: “إن اتساع هذا الفضاء اللانهائي يرعبني (L’étendue de ces espaces infinis m’effraie). وإن هذا الكون الذي نحن جزء منه هو امتداد لكوكبنا الأرض وبالتالي فهو بيتنا الأوسع. فهل يجوز لأي مثقف، بل أي عاقل، ألا يهتم بالكون الذي يعيش فيه، بماهيته، تطوره، مصيره، ومغزى وجوده فيه؟إن الإنسان يشعر بذلك الفضول الطبيعي تجاه ما يحيط به. وهذا الكتاب إنما يشكل محاولة لتوضيح بعض الحقائق وتلبية هذا الفضول. فكل من يفكر يهمه هذا الكتاب، وقد ألف من أجله.
التبسيط العلمي وما يقتضيه
لا شك أن كتابنا “قصة الكون” في جوهره كتاب علمي؛ ومن أهدافه إعطاء القارئ فكرة واضحة عن تصورنا الحالي للكون وما توصل إليه علماء الفيزياء والفلك من معرفة. وقد سعينا بكل ما في وسعنا إلى تبسيط قضايا معقدة ومطروحة أصلا في إطار نظريات الفيزياء المعاصرة وبصياغة رياضية. وقد كانت هذه العملية التبسيطية في منتهى الصعوبة في بعض الأحيان، إذ تطلبت استعمال أسلوب التشبيه والقياس لتوصيل المفاهيم والحفاظ في نفس الوقت على مستوى من الدقة في الوصف. ولكن كل قياس وكل تصوير هما – بالضرورة – محدودي الصلاحية، في حين أن الدقة المطلقة تستلزم معالجة رياضية، ونحن أردنا تفادي الإفراط والتفريط. وقد بدا لنا هذا المطلب أحيانا ليس فقط صعبا بل مستحيلا… وإذ كنا على وعي بهذه المعادلة الصعبة المستحيلة، إلا أننا كنا ندرك دائما أن أي عمل تبسيطي في العلوم هو بالضرورة غير كامل، وليس أمامنا إلا أن نؤلف بهذه الطريقة أو ألا نؤلف مطلقا…
وقد سعينا للوصول إلى حل وسط، مدركين مسبقا أن الحل الوسط قد لا يرضي الطرفين. ولذا نعتذر للمتخصصين الذين قد يلاحظون على بعض الشروحات شيئا من السطحية ونقص الدقة، كما نعتذر للقارئ غير المتخصص الذي قد يرى من جهته أننا في بعض الأحيان “نحلق فوق رأسه” وكأننا نخاطب أصحابنا العلميين.
ومما يؤكد سعينا الجاد على تبسيط المفاهيم أننا كنا أوفياء بالتزامنا المبدئي بعدم استعمال أي معادلة رياضية في هذا الكتاب.
كيف يقرأ هذا الكتاب؟
على الرغم من كل هذه التحفظات والاعتذارات المسبقة، سيجد القارئ في هذا الكتاب مادة تناسب كل الأذواق وتلبي مختلف الاهتمامات. وقد تكون بعض الفصول أسهل لقارئ ذي ثقافة علمية، في حين أن فصولا أخرى ستجذب اهتمام طالب التاريخ أو المهتم بالقضايا الفلسفية. وحتى إذا وجد القارئ فصلا يبدو صعبا لأول وهلة، إلا أننا نعتقد صادقين أنه سيكون قادرا على الإلمام بأفكاره الرئيسية ولخطوطه العريضة – إذا كان له التحفيز الكافي. وليس من الضرورة، بل ليس من المقصود، أن يستوعب كل التفاصيل المقدمة لشرح قضية علمية ما، وإنما وضعت هذه التفاصيل لمن يريد التعمق فيها أو للمتخصص في المجال. وبعبارة أخرى، على القارئ أن يتعامل بحنكة مع الفصول التي قد تبدو له صعبة، وأن يسعى إلى استخراج الفكرة العامة وأن يترك التفاصيل لقراءة لاحقة.
أجزاء الكتاب
أما الكتاب نفسه فقد قسم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يغلب عليه الجانب التاريخي، في حين يعالج الجزء الثاني التصور الحالي للكون، وهو يناسب القراء العلميين أكثر، أما الجزء الثالث فهو عبارة عن مناقشة فكرية، إبستيمولوجية، وأيضا دينية حول القضايا الكوسمولوجية (الكونية) المطروحة حاليا.
الجزء الأول
لا يتطلب هذا الجزء كثيرا من المعلومات المسبقة من طرف القارئ، فقط عليه أن يكون ذا اهتمام بالتاريخ. نبدأ فيه بتقديم التصورات الكونية عند مختلف الحضارات البشرية القديمة، مثل البابلية، الإغريقية، الصينية، الهندية، الخ (الفصل الأول)، وفي الكتب السماوية: التوراة، والإنجيل، والقرآن (الفصل الثاني)، ثم التصورات الكونية عند العلماء المسلمين قديما وحاضرا (الفصل الثالث). ونخصص الفصل الرابع للثورة الفلكية الحديثة وانعكاساتها الكوسمولوجية، والتي كانت من ثمار النهضة العلمية في أوربا في القرن السادس عشر. ونعرض المراحل المختلفة لهذه التطورات الحاسمة، من نظرية كوبرنيكس إلى إدخال المنظار في الدراسات الفلكية من طرف غاليليو، إلى الثورة النيوتنية في فهم حركة الأجرام السماوية. أما الفصل الخامس، الخاتم للجزء الأول، فيعالج التصور الميكانيكي للعالم، والذي كان سائدا في أوربا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع إشارة الى مزالقه العلمية والفلسفية.
الجزء الثاني
نعرض في هذا الجزء التطور الهائل للكسمولوجيا خلال القرن العشرين، وهو ما أخرجها نهائيا من دائرة التخمينات والتلمسات لتصبح علما ناضجا. وقد خصص الفصل السادس للاكتشافات الفيزيائية والفلكية ذات الطابع الكوني والتي حدثت في مطلع القرن العشرين. فإلى جانب الفيزياء أعيدت صياغة الميكانيكا النيوتنية صياغة نسبوية (المبنية على نظرية آينشتاين)، ثم عممت هذه الميكانيكا النسبوية بدورها في شكل نظرية النسبية العامة التي تكوّن الإطار النظري العام للنظريات الكوسمولوجية المعاصرة. أما من جانب علم الفلك، فقد تم التعرف على بنية مجرتنا، كما اكتشف أن مجرتنا ما هي إلا واحدة من عدد هائل من مجرات هذا الكون، وأن هذا الأخير في حالة توسع مستمر.
ويعالج الفصل السابع نظرية الانفجار العظيم من الناحية الهندسية خاصة، ومختلف النظريات الكوسمولوجية الحديثة. أما الفصل الثامن فيناقش بشيء من التفصيل الجانب الفيزيائي لنظرية الانفجار العظيم مما يسمح لنا بفهم المراحل التاريخية التي مر بها الكون ابتداء من الجسيمات والأنوية الأولية التي تم فيما بعد تركيبها في شكل ذرات، والتي تكاثفت بعد فترة في شكل سحب مجرية.
ويختتم الجزء الثاني (الفصل التاسع) بمناقشة نظرية التضخم الكوني التي تعتبر السيناريو الأحدث الذي يحاول شرح ما حدث في المرحلة المبكرة جدا من إنشاء الكون (جزء لا يذكر من الثانية الأولى).
ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أن درجة صعوبة الجزء الثاني تزداد تدريجيا من الفصل السادس إلى الفصل التاسع، وقد يتطلب من القارئ غير المتخصص جهدا أكبر فأكبر على الرغم من أن كثيرا من التفاصيل التقنية قد وضعت في الهوامش.
الجزء الثالث
بعد الجزء الثاني المخصص للتصور العلمي الحديث للكون، نشأته وتطوره، نجد أنفسنا مرغمين على مناقشة العواقب والنتائج الفكرية لهذه المعطيات، ووضعها في علاقة مع الإنسان المشاهد من داخل الكون والمنتج لهذه النظريات والرؤى.
هذا هو موضوع الجزء الثالث الذي يبدأ بالفصل العاشر والذي يتناول الخلفيات الإيديولوجية للقبول البطيء لنظرية الانفجار العظيم في بعض الأوساط العلمية، أي لماذا رفض كثير من العلميين نظرية تقرر بداية الكون من العدم. أما الفصل الحادي عشر فيعالج قضية قد سال فيها كثير من الحبر ودارت حولها نقاشات حادة، وتتمثل في المبدأ الأنثروبي الذي ينص ببساطة على أن بروز الإنسان في الكون يفرض على هذا الكون أن يكون ذي تركيب معيّن، وأن هذا الأخير قد مر بتحولات محددة مسبقا من أجل ظهور الإنسان مستقبلا، و يستلزم ذلك أيضا وجود قوانين فيزيائية وبيولوجية خاصة. فالكون كأنه “مهيأ” من البداية لاستقبال الإنسان. إن هذا المبدأ، الذي وضع في قالب علمي، يقف في تعارض حاد مع التصور الكوبرنيكي التقليدي (أن ليس للإنسان أية مكانة جوهرية في الكون، كما أن وجوده لا يحمل أية دلالة بشأن خصائص هذا الكون). أما في الفصل الثاني عشر فنتساءل مجددا عن المشروع الكوسمولوجي ومعقوليته، أي الى أي حد يجوز للإنسان وهو عقل صغير محدود يحاول فهم كون شاسع من داخله… ويليه الفصل الثالث عشر المتمثل في اعتبارات أنتولوجية (دلالات) بشأن استنتاجات علم الكونيات: هل للكون مغزى؟
وننهي الكتاب بخاتمة تركيبية نبرز فيها أهم النقاط التي نوقشت والنتائج التي وصلنا إليها، دون أن نعطي إجابات نهائية!
نقطة أخيرة… قبل البدء
إن هذا الكتاب ثمرة عمل مشترك بين باحثين جزائريين كانا يقطنان في مدن مختلفة، ثم – في المدة الأخيرة من إنجازه – في قارتين مختلفتين. وقد يظهر من حين لآخر اختلاف في طريقة معالجة المواضيع بل حتى في بعض الآراء المعبر عنها، كما قد يظهر شيء من التكرار في الشروحات عبر الفصول، وقد فضلنا عدم تعديلها للحفاظ على انسجام كل فصل. ولكن هذا لا يعني أن الكتاب ألف كأجزاء منفصلة وبأساليب مختلفة، بل تم وضع التخطيط مشتركا من البداية، وقام كل من الكاتبين بمراجعة الأجزاء التي كتبها الآخر، وجرت مناقشة كل فقرة تقريبا بالتفصيل، لذا فلا يعجب القارئ إذا علم أن صياغة الكتاب (لوحدها) دامت أكثر من خمس سنوات…
قيل: “إن العلميين البارعين كان لهم في معظم الأحيان معلمون جيّدون، والذين لم يكن لهم مثل هؤلاء المعلمين، قرؤوا كتبا جيدة“. نأمل أن يحقق كتابنا هذا المعنى للقارئ، ولو بنسبة صغيرة، ويبقى التقييم له في الأخير…
وفي الختام، نود أن نشكر بدورنا أساتذتنا المخلصين الذين أوقدوا المشعل في الليالي الحالكات وأودعوه بين أيدينا. كما يود أحد منا (ج.م.) أن يشكر زوجته على مراجعتها الدقيقة لجزء كبير من الكتاب، وأن يشكر كذلك أ.أحمد جاري لمساعدته الكبيرة في إنجاز الأشكال. كما لا ننسى أن نشكر والدينا الأعزاء، وكل قريب شجعنا على السير وأمدنا بالمعونة على الدرب…
والله ولي التوفيق.
جمال ميموني ونضال قسّوم