هل يجب أن نحذر من الموادّ الغذائية المعدّلة جينياً ؟

نضال قسوم

في شهر حزيران/ يونيو الماضي، زرت جامعة كامبريدج لبضعة أيّام. وأثناء زيارتي الأولى للكفتيريا، تفاجأت لرؤيتي تنويهاً للزبائن يشير لعدم وجود منتجات معدّلة وراثياً ضمن وجبات الطعام أو الأغذية المقدّمة. وقد وضّح لي زملائي البريطانيون (وقد تأكّدت من ذلك لاحقاً) أنه لا يوجد محاصيل معدّلة جينياً في بريطانيا، إلا في بعض طعام الحيوانات المستورد.
بعد أسابيع قليلة، قامت المحكمة العليا الفرنسية بإصدار مرسوم يأمر برفع الحظر المفروض عن بعض المنتجات الزراعية المعدّلة جينياً، وذلك عقب تقرير أعدته هيئة سلامة الأغذية الأوروبية جاء فيه أنه لا يوجد أي تهديد للبيئة يستوجب حظر المنتجات المعدّلة جينياً.
وفي مطلع شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، نشر فريق تحرير المجلة العلمية المرموقة Scientific American في الافتتاحية طرحاً معارضاً ليس ضدّ أي حظر على المنتجات المعدّلة وراثياً فقط، بل حتى ضدّ وضع أي علامة على المنتجات التي تحوي شيئا من ذلك، ما حاولت بعض الولايات الأمريكية تبنّيه.
هناك جدل قائم حالياَ حول مدى وجود أي مخاطر أو تأثيرات سيئة للموادّ الغذائية المعدّلة جينياّ، سواء ما يهدّد صحة الإنسان أو البيئة. بل هناك من يؤكد أن ثمّة فوائد للتعديل الجينيّ على المنتجات تجعل من غير الحكمة أن نهملها، وخصوصا بالنسبة للعالم النامي. وسأشير الى ذلك أدناه.
وليس الجدل القائم الآن حول كيفية التعامل مع المنتجات المعدّلة جينياً مقتصرا على العالم الغربي. في الواقع، هناك على الأقل 28 دولة تزرع المحاصيل الزراعية المعدّلة جينياً بشكل قانوني، وهذا يشكّل حوالي 12% من مساحة المناطق الصالحة للزراعة في العالم.
وفي العالم الأقلّ تقدما، تمثّل الهند حالة مثيرة للاهتمام. ففي عام 2011 كان 88% من إنتاج القطن الهندي معدّلاً جينياً وذلك ليكون مقاوماً للحشرات على وجه الخصوص. وقد أشار مؤيدو الموادّ المعدّلة وراثياً إلى الفائدة الاقتصادية المهمة لهذه الموادّ، بالإضافة إلى عدم وجود أية مخاطر موثقة.
ولكن حصلت بعض التطورات السلبية مؤخرا، وتحديداً ما لوحظ حول تأثير الطفرات الجينية التي من الممكن أن تكون قد سمحت لدودة القطن بمهاجمة المحاصيل وبالتالي انخفاض الإنتاج.
وقد أدّى هذا التطوّر المثير للإنتباه إلى قيام إحدى الولايات الهندية بحظر القطن الذي يقوم على الموادّ المعدّلة وراثياً والمستخدمة بشكل واسع، وقامت بطلب دراسة اجتماعية واقتصادية واسعة من معاهد مستقلة لبيان الإيجابيات والسلبيات الناتجة من استخدام الموادّ المعدلة وراثياً في الزراعة. واعتبارا من مطلع كانون الثاني/ يناير، تعيّن على الشركات الغذائية، وبموجب القانون الهندي، الإشارة إلى أي منتج يحتوي على تلك الموادّ.
إن الناس اليوم حول العالم كله صاروا يشعرون بالحيرة والقلق. فمن ناحية، هم لا يدركون الأساس العلميّ لهذه الموادّ المعدّلة وراثياً، ولا أسباب المخاطر المحتملة؛ ومن ناحية أخرى، لا يثق الناس بالشركات الزراعية الصناعية، يرون بشكل واسع بأنها لا تهتم إلا بزيادة الأرباح.
ومن ناحية أخرى، يسمع الناس ويرون أن مثل هذه التكنولوجيا الحيوية تستطيع أن تساعد في حماية المحاصيل من الآفات والأعشاب البرية، ومضاعفة العائدات ومبيعات المزارع، والمساعدة في تقليل المجاعات وبعض الأمراض. لكنّ الأمور صارت تسير بأسرع مما يمكن للناس استيعابه، فانتهى الأمر بهم إلى رد فعل انفعاليّ بدل أن يكون عقلانياً!
هل يمكننا التعامل بمنطقية مع المشكلة لنصل إلى استنتاجات معقولة؟
أولا، يجدر التأكيد أنه لا توجد أيّة أدلة علمية قاطعة حول تأثيرات سلبية للموادّ المعدّلة وراثياً، سواء على الحيوانات أو البشر أو البيئة. وقد قامت جميع المؤسسات العلمية الكبرى (الجمعية الطبية الأمريكية، الأكاديمية الأمريكية للعلوم، الجمعية الملكية البريطانية، وغيرها الكثير) بإصدار بيانات أكّدت فيها أنّ المحاصيل القائمة على الموادّ المعدّلة وراثياً لا تشكّل أيّ خطر أكبر مما يمكن للمحاصيل “الطبيعية” أن تشكّله.
علاوة على ذلك، من المهم إدراك أن لا فرق جوهرياً بين الإصطفاء الوراثي الذي كان يقوم به المزارعون لعدة قرون بطرق “طبيعية”، والتكاثر “الصناعي” عن طريق التعديل الوراثي… تماما مثل عدم وجود فرق جوهري بين طرق منع الحمل “الطبيعية” والموانع “الصناعية” (حبوب منع الحمل، مثلا).
ثانيا، هناك فوائد مهمة نجنيها باستخدام الموادّ المعدّلة وراثياً : الحماية ضدّ الحشرات والجفاف ودرجات الحرارة العالية، إضافة إلى نموّ النباتات (مثل “الأرز الذهبي”) التي قد جرى تحصينها بدعمها صناعيا ببعض الفيتامينات التي تكافح أمراضا معيّنة. في الحقيقة، لقد ذكّرنا محرّرو مجلة Scientific American أنّ ” الأرز الذهبي” هو علاج لنقص فيتامين (أ) من خلال إنتاج مادة البيتا-كاروتين، حيث كان نقص ذلك الفيتامين يتسبّب بالعمى لحوالى نصف مليون طفل في أنحاء العالم سنوياً.
ثالثا، المحاصيل القائمة على موادّ معدّلة جينياً أرخص سعراً (للمزارع والمستهلك)، وأكثر وفرةً من نظيراتها الطبيعية…
المبدأ الوقائي
في المقابل، فإن معارضي المنتجات الغذائية المعدّلة وراثياً يستدعون المبدأ الوقائيّ (وهو صيغة مطوّرة لمقولة “الأمان ولا الندم”،أو “درهم وقاية خير من قنطار علاج” ، أو “لا ضرر ولا ضرار”)، وطلبوا براهين قوية تثبت أنه لا يوجد في الواقع أيّ آثار سلبية. وقد أشاروا إلى بعض الدراسات التي حدّدت مثل تلك الآثار – على الرغم من أنّه قد تم دحض تلك الدراسات – وأصروا أنّ الوقت ما زال مبكرا للقول بعدم وجود أي آثار مخيفة لتلك المنتجات القائمة على الموادّ المعدّلة وراثياً. بالإضافة إلى ذلك، تم التذرّع ببعض المقولات الأخلاقية وحتى الدينية، فتساءلوا عن مدى مشروعية “التدخّل في خلق الله” أو حتى تقمص دور الخالق، كما في حالة القطة الخضراء الفلورية التي قد تم إنتاجها بالتقنية الوراثية من أجل “الاختبارات الطبية”.
ومع أن نسبة المواطنين الذين يعبّرون عن مخاوف قوية بشأن المنتجات المعدّلة وراثياً قد انخفضت في الفترة الأخيرة، حتى في أوروبا، وأنّ العلماء قد أيّدوا استخدام مثل هذه الموادّ، فإن الجدال حول هذا الاستخدام لم يختفي.
ويشكل هذا أحد المواضيع المهمة التي يجب على العلماء وصانعي القرار ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، أن يلعبوا جميعا دوراً بنّاءً لتحسين فهم هذه القضية ومنع أيّ حالة من الهلع، وطرح حوار صحيّ وعقلانيّ حولها…

ترجمة أ. وعد العباسي وأ. بسمة ذياب لمقال د. نضال قسوم الصادر باللغة الأنجليزية في جريدة “غولف نيوز” في 27 سبتمبر 2013:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/should-we-worry-about-genetically-modified-organisms-1.1235961#.UkUqh0FCkOs.facebook