الإسلام والعلم الحديث

   كيف ينظر الإسلام إلى العلم الحديث؟ هل بإمكان الفكر الإسلامي أن يجد صيغ تعايُش، بل تواصل، مع النظرة إلى العالَم التي يقترحها العلم؟ هل ينبغي الانضمام إلى رأي أولئك الذين يؤكِّدون بأنَّ الإسلام عموما يُلاقي مع العقل صعوبات خاصَّة، لا نجدها في الديانات الأخرى؟

   النقاش حول العلاقة بين الإيمان والعقل مفتوح منذ أمد طويل في العالَم الإسلامي، تؤكِّد ذلك أمثلة مأخوذة من التاريخ. سنذكر إذن ثلاثة أسماء معروفة في الحضارة العربية الإسلامية قديما، في الحقبة التي امتازت بالوفرة الفكرية المؤسَّسة على الوحي (القرآني) والمتأثِّرة إلى حدٍّ كبير بالفكر اليوناني.

   نبدأ باين سينا (980-1037). معلِّم علماء القرون الوسطى اللاتينية والمسيحية. طبيب ومحرِّر رسائل أساسية كانت تُدرَّس في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، ومُفسِّر للقرءان الكريم، ومؤلِّف صوفي لنصوص باطنية، وفيلسوف متأثِّر إلى حدٍّ بعيد بالفكر المستلهم للفلسفة الهيلينية (اليونانية). اقترح نظرة شاملة للعالَم، الكونُ فيها أزلي، متوافقا في ذلك مع الفلسفة والعلم الإغريقيين، ومن ثمَّة فهو مخلوق (أي العالَم) من الله منذ القِدم، موجود منذ الأزل، وهذا خلافا للتفسير الغالب في علم الكلام في عصره، والذي يقول بخلق العالَم في الزمن. نُعرِّج بعد ذلك على الغزالي (1058-1111) في القرون الوسطى، الذي يرى بأنَّه لا يمكن للفلسفة وللعلوم أن تكون متناقضة حقيقة مع الوحي، وإذا كان هناك من صراع مُحتمَل بينها فإنَّ مردَّه إلى أخطاء الفلاسفة الذين لم يُحسِنوا تطبيق المنهجية العقلانية أو استعملوها في قضايا ليست من اختصاصها.

     نصل أخيرا إلى ابن رشد (1126-1198) المعروف في الغرب باسم: Averroès. فيلسوف وشارح لأرسطو، وقاضي قرطبة أيضا. عاد بدوره إلى هذه الإشكالية وانتهى إلى أن دراسة “الحكمة” بالنسبة للمسلمين كانت واجبا فرضته الشريعة. كان يرى أنَّه في حالة حدوث صراع ظاهِرٍ بين المعطيات التي أثبتتها الفلسفة وكذا العلم المستلهميْن لأرسطو والنصِّ القرءاني، فإنَّه ينبغي اللجوء إلى تفسير النصِّ القرءاني بما يجعله متوافقا مع العقل، والنتيجة هي أنَّه كان ممكنا إيجاد تعايُشٍ بين البحث العقلاني والإيمان دون أن يؤدِّي ذلك إلى تصادمهما.

   يشهد ابن سينا والغزالي وابن رشد ثلاثتُهم، بطريقتهم، على وحدة الفِكر الإنساني، وعلى استحالة أن توجد لفترة طويلة تناقضات بين الإجراءات العقلانية لمعرفة العالَم وقراءة الوحي. لكنَّهم وإن كانوا يتَّفقون على هذه الوحدة فإن اختلافهم عميق حول طريقة أو كيفية الوصول إليها، خصوصا حول ترتيب مصادر العقل وقراءة النصوص المُقدَّسة من حيث الأفضلية.

    لقد كان للعلم وللدين –أو بالأحرى للعلوم والديانات- منذ 25 قرنا تاريخ مُعقَّد، كما أنَّ طُرُقها تقاطعت أحيانا قبل أن تتباعد بطريقة واضحة أكثر فأكثر منذ عصر الأنوار في الغرب. لقد تغيرت العلوم بطبيعة الحال كثيرا منذ فترة ابن سينا والغزالي وابن رشد وإخوتهم في الملَّة ومُعاصِريهم، الذين كان تفكيرهم مُنصبا على توافُق الإجراء العقلي مع الدين أو عدم توافقهما. لم يعد العِلم عِلمَ “العقلانية العقيدية” الشائع منذ ألف عام الذي يزعم استنباط كلّ الشروح من عدد صغير من المبادئ الصحيحة حدسا. لقد أصبح اليوم استنباطيا واستدلاليا، يستند على ذهاب وإيابٍ فيما بين النظرية والتجربة. إنه لا يتردَّد في وضع نفسه موضع الشكِّ والمساءلة الدَّائمة وتحسين مبادئه ومناهجه. أصبحت العقلانية نقدا: لقد تخلَّت عن مزاعمها استنباطَ مجموع الحقائق من بعض المبادئ العامَّة، إنَّها تضمّ مُعطيات العِلم وتنظر باستمرار في مكانتها وحدودها في التاريخ. مكَّنها طموحُ العِلم وكذا مناهجُه والتكنولوجيا أيضا، التي هي أمُّه وابنتُه في الوقت نفسه، ليس من تغيير النَّظرة إلى العالم فقط بل حتَّى من تغيير العالَم ذاته. أصبحت عولمة التبادلات ابتداء من الآن تنزع إلى إنتاج صِيغ فِكر وسلوكيات فردية واجتماعية مُنمَّطة ومُوحَّدة أكثر فأكثر. وبالموازاة مع ذلك شهدت الهويات المؤسَّسة على ديانات أو ثقافات تراجعا ظاهرا بيد أنَّها تواصل المقاومة، وتتصلَّب أحيانا بانغِلاقِ على الذات مُخيف. العالَم الإسلامي بصدد التعرّض لهاتين الحركتين المتضادَّتين ويواجه تحدٍيا مزدوجا: أن يُحدِّد نفسه إزاء الحداثة التي يُعتبَر العِلمُ أحدَ أهمِّ مُنتجاتها ومحرِّكاتها، وأن يُحدِّد نفسه أيضا إزاء الديانات والثقافات الأخرى.

ينبغي الاعتراف أن العالَم الإسلامي شارك بقسط قليل في ظهور العِلم والتكنولوجيا الحديثين الذين تطوَّرا لقرون في أوروبا ثمَّ امتدَّا إلى أمريكا الشمالية والآن إلى البلدان المسمَّاة متقدِّمة، حيث لا يُعتبر الإسلام فيها قوة ثقافية دالَّة. وعلى النَّحو نفسه قُرِّرت حركة العولمة وسيقت على نطاق واسع بمعزل عن العالَم الإسلامي الذي لا يشكِّل فيها حتَّى الآن سوى مُموِّل بالموارد (طبيعية وإنسانية). وإذا استثمر في امتلاك التقنيات وتطويرها أحيانا فإنَّه يُسهم بقسط صغير بصفته تلك، في المجهود الدولي في البحث العلمي الأساسي، والعلماء المتعلِّقون قليلا بالثقافة الإسلامية أو البارزين فيها يُجرون أبحاثهم في مخابر البلدان الأكثر تطورا في أوروبا أو في أمريكا الشمالية. من حينها ينطرح سؤالُ قضيةِ العلاقة بين الإسلام والعِلم كإحدى حالات العدول الواسع للإسلام عن الحداثة. هل هناك صعوبة في العمق بالنسبة للمسلم حتى بسبب الأُفُق نفسه الذي يقترحه الإسلام في ممارسة العِلم والانخراط في مناهجه ورؤيته للعالم؟ باختصار، هل يمكن للإنسان أن يكون رجلَ عِِلمٍ ومسلما مؤمنا بلا غموض؟ سؤال كهذا ليس جديدا، فقد طرحه إرنِست رينان (1823-1892) في مُحاضراته الشهيرة: “الإسلامُ احتقارٌ العلم وإلغاءٌ للمجتمع المدني، إنَّه البساطة الخانقة للفكر السَّامي التي تُضيِّق العقل الإنساني وتُغلقُه أمام كلّ فكرة صعبة وأمام كل إحساس رقيق وأمام كلّ بحث عقلاني لكي تضعه إزاء حشو وتكرار أبديين: الله هو الله”[1][1]. والنتيجة أن تطوير العلوم حسبه أمر سمح به الإسلام، لكنَّه نزف وانقطع بعد قرون[2][2].

   لا يعترف كثير من المسلمين بهذا الحكم القاسي من رينان. لا تشكو ثنائية الإسلام والعلم حسبهم من أية مشاكل. لذا يُبرزون الدورَ المركزي الذي يخصُّ به النصُ القرءانيُ العلمَ والمعرفة في توجُّهه لـ”الذين يعقلون”، كما يُبرزون الحديثَ النبويَ الشريفَ الذي يجعل من “طلب العلم (…)  فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة”[3][3]. العلم في الأساس هو المعرفة ذات الطابَع الروحي التي أتى بها القرءانُ، هو رسالة “كلام الله” نزل بها جبريل على الرسول محمَّد (ص)، جاء –وهو ما نقرأه في الآيات الأولى من الوحي-فـ”علَّم الإنسان ما لم يعلم”[4][4]: واجباته الروحيةَ أو الغايةَ من وجوده في الحياة وواجباته الأخلاقية ومصيرَه بعد الممات، وذلك ضمن نظرة لتاريخ النبوة المقدَّس وضِمن تعدّدية العوالِم والجماعات. غير أن فهم الرسالة والتفاعل مع فِكر الديانات الأخرى وبصورة خاصَّة الاتصالات الأولى بالفكر الفلسفي المستلهم للروح الإغريقية والإغريقية اليهودية سرعان ما قاد المسلمين إلى التساؤل بطريقة أكثر تلقائية ووضْعِ “علوم شرعية” ذات مناهج وقواعد مثل “الفقه” و”التفسير” و”علم الكلام” مُحقِّقين بذلك نوعا من الممارسة العقلانية إضافة إلى مصادر النصوص المُقدَّسة. من ذلك مثلا أنَّ التثبّت من أحاديث النبي (ص) وأقواله وتصحيحها تطلَّب بلورةَ مناهج تهدف إلى التأكّد من سلسلة الرواية (صِحَّة السنَد)، كما أنّ إحقاق الحقّ استدعى بلورة تبرير عقلاني بالمماثلة تجسَّد في القياس.

   في فترة انتشار الإسلام أثناء الخلافة الأموية ثمَّ العباسية خصوصا، تطوَّر الفكرُ الإسلامي في كلّ الاتجاهات لبلورة معارف ذلك العصر وتنظيمها، وفُهم العِلمُ بمعناه الواسع وهو مجموع المعارف التي بإمكان الإنسان الوصولُ إليها وطلبُها “ولو في الصين”[5][5] على حدِّ تعبيره صلَّى الله عليه وسلَّم. إلى جانب النقاشات الكبرى المصاحبة لتأسيس التيارات الأساسية في علم الكلام والمدارس الفقهية الكبرى، وإلى جانب الفكر الصوفي الذي كان يبحث عن تعميق علاقة الإنسان بالله، تأثَّر التفكير الإسلامي عميقا بترجمة النصوص الفلسفية المستلهِمة لأرسطو وللأفلاطونية الجديدة فوجد نفسه مدعوا لمواجهة قضية العلاقة بين العِلم والإيمان، دون أن يفرضَ حلٌّ توافُقي نفسَه حينها.

   في الوقت نفسه وعلى غرار الفكر العِلمي اليوناني بعد أرسطو واقليدس وبطليموس، شرع العلماءُ العربُ المسلمون[6][6] في الاكتشاف العقلاني للعالَم، وقد وجدوا في القرءان من دون شكٍّ تحفيزا قويا على النَّظر في العالَم (الكون)، الكون الذي فيه ظواهر هي علامات على وجود الله، عالَم لأن الله هو خالقه فهو بالضرورة كُلٌّ  مُنظَّم. يمكن تلخيص منهجهم بالآية الكريمة: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات أولي الألباب”[7][7]. وقد ظهر علماء كثيرون في تلك الفترة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الخوارزمي (783-850) مؤسِّس اللوغاريتمات وعلم الجبر، ثابت بن قرة (826-901) وأعمالُه عن الأعداد الصَّديقة، عبد الرحمن الصوفي (903-986) الذي أحصى النجوم وأعطاها أسماء مازالت إلى اليوم، ابن الهيثم (965-1039) مؤسِّس علم البصريات ومخترع الحجرة السوداء (المظلمة)، ابن سينا المذكور آنفا وآثاره في الطبّ، البيروني (973-1048) الفلكي وعالِم الرياضيات، ابن بطوطة (1304-1369) الرحالة الجغرافي، أو ابن خلدون (1332-1406) الذي يُعتبَر مؤسِّس علم الاجتماع، ورائد تاريخ الحضارات. لتقييم أعمالهم في الإطار الصَّارم لتاريخ العلوم علينا العودة إلى الكتب المتخصِّصة عودةً مفيدةً[8][8]. ما يهمّنا هنا هو تناول القضية المركزية: هل كان هؤلاء العلماء العرب المسلمون أكثر من ناقلين ومترجمين ينعمون بتسامح من المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن ثمَّة فهم متناقضون مع خيارات العقيدة الإسلامية؟ يكفي مِثال واحد لمقاربة هذه المسألة: هو الفَلَك. نقرأ أحيانا أنَّ الدَّافع الأساس للفلكي المسلم كان دافعا نفعيا. وجد المسلمون أنفسهم حسب هذا الرأي مهتمّين بنموذج بطليموس (90-168)، وهو النموذج الأكثر اكتمالا حينها لأن الأمر كان يتعلَّق قبل كلّ شيء بتحديد مواقيت الصلوات اليومية الخمس المفروضة شرعا، وبتحديد الاتجاه الصحيح إلى القِبلة في كلّ مكان والتنبؤ أخيرا ببدايات الأشهر القمرية وخصوصا بداية شهر رمضان الكريم الذي شرع فيه الصَّوم إحدى الفرائض الشرعية الأخرى. عندئذ لم يكن المسلمون حينها سوى حسَّابين لم يُضيفوا شيئا ذا معنى للمغامرة الكبرى للعلوم، إن لم نحتسب –احتمالا- كمّا كبيرا من المعطيات التي تسمحُ بتحديد النماذج –وذا ليس بالشيء القليل- قبل الثورة المفاهيمية الحقيقية التي أقترحها كوبرنيقوس في القرن السادس عشر في أوروبا.

    أوضحت دراساتٌ حديثةٌ أن هذه النَّظرة كانت جزئية كي لا نقول منحازة. لقد كان علماء الفلك المسلمون يعيشون ضمن سياق فكري كان النقاش أهم سِماته، حيث كان الفِكر اليوناني مُقدَّرا فيه بقدر ما كان مادَّة للنقاش أيضا. كان مذهب السببية –في نسخته الأرسطية ذات الأربعة أسباب كما في نسخته الأفلاطونية الجديدة: الانبثاقية- نظرةً للعالم تقوم على فكرة أنَّه ما دام الله حُرّا في خلق ما يريد فإنَّ العقلَ الإنساني لا يستطيع استنباط كلّ الحقيقة من المبادئ فقط، بل عليه إذن أن تنظر في الخلق لترى ما قرَّر الله. بهذا المخطَّط الخلفي الفلسفي والكلامي (نسبة إلى علم الكلام) الدَّاعي إلى الحتمية، انتقد علماء الفلك المسلمون بقوة ميكانيزمات النموذج البطليموسي وخصوصا إحدى هذه الميكانيزمات: équant[9][9]، كما أوضح ذلك مؤخَّرا جيل رجب[10][10]. بتلخيصها لاكتشافات مؤرِّخين عديدين غالبا ما تكون عفوية انتقدت موجةٌ أولى من الفلكيين المسلمين بقوة بدءا بابن الهيثم المشار إليه آنفا مناهج بطليموس وملاحظاته ومناهجه. في اسبانيا الإسلامية (الأندلس) اقترح البتروجي[11][11] نموذجا يستعمل فقط مدارات لولبية (لا كروية) تدور فيها الأفلاك كلُّها حول مركز واحد فقط، مستغنيا عن جهاز “دواليب” بطليموس. لكن التطور المُعتبَر لم يحصُلْ إلا لاحقا وخصوصا في المشرق مع فلكيين أمثال الطوسي (1201-1274) والعرضي (متوفَّى سنة 1266) وبصورة خاصَّة مع ابن الشاطر (مُتوفَّى سنة 1375). ابتكر الطوسي نظاما حسابيا يسمح بإعادة إنتاج حركات خطية انطلاقا من نظام حركات دائرية استعمله كوبرنيكوس. أما ابن الشاطر فقد اقترح نموذجا متخلِّصا فيه بدرجة كبيرة من الدوائر الصغيرة مختلفة المركز-épicycles excentriques والمُعادلة-équants. يبدو جليا أن كوبرنيكوس كان يعلم بهذه النَّظريات حتى وإن لم يكن ذلك إلاَّ من أجل مشابهة رسومه البيانية تقريبا لمثيلتها عند سابقيه العرب. وفي القرن الخامس عشر انتقد علي بن القشجي (1403-1474) بقوةٍ الفلسفةَ الأرسطيةَ ضمن تقاليد الاعتراضات الكلامية على الإستجيرى (أي أرسطو، نسبة إلى بلدة استجيرا التي وُلِد فيها) واستنباطه لكل الحقيقة انطلاقا من بعض المبادئ. نصَّب نفسه مُحاميا لفكرة الفصل التام بين علم الفلك من جهة والفلسفة من جهة أخرى. ومباشرة راح يُحاجِج مُتَّبعا أفكار الطوسي الأولى حول إمكانية حركة دوران الأرض بصورة حتمية متخلِّصا من قيود أرسطو الفيزيائية التي تُبقي الأرضَ جامدة في مركز الكون. بهذا أسقط كلّ حُجج بطليموس ضدَّ دوران الأرض قبل قرن من مُباشرةِ كوبرنيقوس الإجراءَ نفسَه في أوروبا.

     لم يكن علم الفلك العربي الإسلامي في نهاية القرن الخامس عشر قد راكم المعطيات طيلة قرون فقط، بل كان قد انتقد فيزياءَ أرسطو الخفية وحججَ بطليموس الفلكية التي تمنع الحركة عن الأرض، كما نظَّر من زاوية ابيستمولوجية لاستقلاله الذاتي عن الفلسفة. يبدو جليا أن هذا النوع من النقد الجِذري لبطليموس لم يكن موجودا في العالَم المسيحي[12][12]. يُحتمَل أن يكون كوبرنيقوس -كما يعتقد نويل سويردلو- Noel Swerdlowانطلاقا من دراسة   “Commentariolus”الصيغة الأولى لأعمال كوبرنيكوس- قد استند بقوة إلى انتقادات العلماء العرب لبطليموس التي يستشهد بها، أو ربَّما يكون قد تأثَّر بمخطوطات مشكوك في آثارها غير أنَّها لم تُكتشف بصورة كاملة بعد[13][13]. عندها بإمكان عمله إذن أن يقوده إلى ما يُشبه نسق تيكو براهي- Tycho Brahé. لكن خاصية هذا النَّسق أن مدار المريخ يتقاطع مع مدار الشمس. هذا الأمر كما يُلخِّص رجب “ببساطة لم يكن ممكنا في فلك الدوائر (المدارات) القوية التي دخل فيها كوبرنيكوس وبذلك دُفِع إلى اختيار النظام الشمسي والأرض باعتبارها كوكبا يدور حول الشَّمس”[14][14]، وذلك بعد دحضه حججَ بطليموس حول ثبات الأرض بإتباعه الدقيق تقريبا لحجج الطوسي والقشجي.

    إذن ماذا كان ينقص العالَم الإسلامي كي يُضيف “كوبرنيقوسا” آخر إلى قائمة هؤلاء الفلكيين المبتكِرين؟ لماذا لم يقترحْ أحدُ تلاميذ علي بن القشجي القريبين أو البعيدين في نهاية القرن الخامس عشر أو بداية القرن السادس عشر نظاما شمسيا؟ وإذا اعتقدنا بأنّ “الثورة الكوبرنيقوسية” كانت الخطوةَ الأولى للتقدم الخارق للعلم في الغرب، لماذا لم يحدثْ هذا التقدّمُ في العالم العربي الإسلامي وخصوصا في الإمبراطورية العثمانية التي لم تتوقَّفْ قوتُها عن النموّ في القرن السادس عشر  خصوصا بعد استعادته للخلافة سنة 1517؟ هنا يظهر السؤال المُلحَق (بالسؤال السابق) الذي سمّاه جوزيف نيدهام-Joseph Needham المختصّ في “العلوم في الصِّين” بالضبط، “السؤال الكبير”، ونصُّه: لماذا تقدَّم العلم بسرعة في أوروبا في القرن السادس عشر وخصوصا في القرن السابع عشر؟ والواقع أنَّه قد حدث مرات عديدة أن وجدت حضارةٌ ما نفسها في وضعية فكرية وعلمية قريبة من تلك التي كانت عليها أوروبا في القرن الـ15 –لكنَّ تحديد هذا الجوار هو بطبيعة الحال جزء من الإجابة عن السؤال الكبير. إضافة إلى العالم الإسلامي في الفترة من 1200 إلى 1450 المذكورة سابقا، ينبغي ذكرُ حالة الصِّين على الأقل في فترتين. حظِي السؤالُ الكبيرُ الذي طرحة نيدهام بإجابات كثيرة وهو يندرج بالطَّبع ضمن أُفُق عامّ خاصٍّ بتاريخ الحضارات حيث نستطيع إعادة رسم خطوط قضايا كبرى أخرى مثل ميلاد فكرة الفرد وفكرة حقوق الإنسان والديمقراطية والرأسمالية، الخ. لكنَّنا سنحاول التركيز على المظهر (الجانب) العِلمي. تطرَّق إلى هذا السؤال الكبير مؤخَّرا دافيد كوسنداي-David Cosandey في كتاب ضخم يستعرض آليا ويصوره نقدية كل الاحتمالات المُقدَّمة  للإجابة بالتعرف على نقاط ضعفِ وقوة كلّ منها[15][15]. يمكننا ترتيب التفسيرات المُقتَرَحَة في ثلاثة أصناف واسعة: التفسيرات بعوامل داخلية تتعلَّق بتراث الأوروبيين. التفسيرات بعوامل خارجية. والصِّنف الثالث هو التفسيرات التي تنتقد سدادَ “السؤال الكبير” نفسه ووجاهته. من الأسباب الممكنة لتقدّم العلم في أوروبا المتعلِّقة بتراث الأوروبيين: ثقافتهم المستندة إلى الفِكر اليوناني (المعجزة اليونانية) ودينهم (المسيحية أو اليهودية المسيحية، أو لنقل البروتستانتية أكثر من الكاثوليكية) كي لا نتحدَّث عن البنية الخاصَّة للغات الهندو أوروبية، أو أيضا ممَّا لا نستطيع قوله- horresco referens، من تفسيرات بأفضلية وتسامٍ مزعومين ذوي أصل عِرقي عنصري كانت رائجة بقوة في القرن التاسع عشر وبداية القرن الـ20، نتائجها غير خافية. من العوامل الخارجية مثلا: المناخ المعتدل الذي تتمتَّع به أوروبا ووفرة المواد الأولية (الخشب والماء ثمّ الفحم) وجغرافيتها المتميِّزة بأشباه جُزر وبِحار تتغلغل في عمق القارة.

    نُذكِّر أنّ كُتَّابا عديدين أرادوا مؤخَّرا التأكيد على تكامل، بل التوافق الطبيعي- connaturalité، بين المعجزة اليونانية من جهة والرسالة المسيحية من جهة أخرى. شرح البابا بينيدكتوس السادس عشر في خطاباته المؤسِّسة في راتيسبون-  Ratisbonne والـ Bernardins (في باريس) إلى أيِّ مدى هو دالٌّ عنده على الوحدة بين المشروع الإلهي للتجسّد والعقل الإنساني كونُ الأناجيل قد كُتِبت باليونانية لإيحاء الكلمة أو اللوغوس-logos “الفعل الإنسان”. بالنسبة له، ليس ممكنا فقط بل ضروري إذا كان الإنسان مسيحيا أن يُشغِّل كامل عقله. عرفت هذه الوضعية “نقيضَها” نوعا ما عبر كتاب سيلفان قوقنهايم-Sylvain Gouguenheim الذي صدر حديثا والذي أشار جدلا حادّا. ألزم فيه المؤلِّف نفسه بتكذيب أسطورة نقل الفِكر الإغريقي إلى أوروبا عبر وساطة الفكر الإسلامي، الذي هو على العكس من ذلك عاجز بطبيعته أو في جوهره بممارسة العقل حقيقة كما يفعل الفكر المسيحي[16][16]. فُكِّكت حُجج الكتاب بطريقة منهجية أثناء النقاش الذي أعقب ظهوره[17][17]. نعود إلى كوسنداي لنشير إلى أنّ العوامل الداخلية بدت للبعض غير متلائمة مع حُجج بسيطة، غير أنَّه ينبغي الاعتراف لها بفضيلة الصواب. فيما يخصّ الإسلام، سبق لنا أن رأينا بعض الأمثلة التي تُبيِّن أن العِلم بقي ناشطا طيلة خمسة قرون على الأقل في العالَم الإسلامي في ظلّ أنظمة سياسية وظروف اجتماعية ودينية مختلفة كثيرا. ربَّما ليس الإسلام في حدِّ ذاته هو من منع ازدهار العلوم حقيقة. عموما ليس لتفسيراتٍ من هذا النوع أساس متين كما يشرح لنا كوسنداي. ثم لقد قيل مُطوَّلا إنَّه إذا كانت البروتستانتية مع حرية النَّظر-ibre examen تدعو إلى حرية الفِكر الضرورية للعلم فإنَّ الكاثوليك والأرثوذكس وهم حبيسو “أغلال الدوغمائية” و”خضوعهم لتعاليم الكنيسة” لا يستطيعون بلورة الفِكر العلمي حقيقة. صحيح أن بعض الوضعيات الكَنَسِية –وسنعود إلى ذلك في الصفحات الموالية- قد أوقفت مؤقَّتا تطوُرَ العلم بالمصادرة أو التحريض على الرقابة الذاتية.

    لكن العلوم تطوَّرت حقيقة في العالَم الكاثوليكي. الشيء نفسُه حدث مع الحضارات المنتمية إلى ديانات لا توحيدية، التي بما أنَّها لا تتصوَّر خالقا وحيدا نظَّم كلَّ شيء بـ”العدد والمقدار” فإنَّها لا تتصوَّر مفهوم القانون. نعرف مقدار التقدّم حاليا في اليابان وكوريا والصّين أو في الهند. من جهته يُفضِّل كوسنداي ما يُسمِّيه بالـ- méreuporie(وهو مصطلح نحته كوسنداي من كلمتي: méros بمعنى مُقسَّم، و  euporiusبمعنى الوفرة، ومعنى الكلمة المنحوتة: الديناميكية الاقتصادية والانقسام السياسي المستقرّ)، أو “نظرية الدول الغنية”: نسق من الدول الممتلئة بقدر كاف كي تنطلق في تنافس تجاري وتكنولوجي وفكري شريف. إذا كانت أوروبا في نهاية القرون الوسطى قد وجدت نفسها في هذه الوضعية كما يقول كوسنداي فإن ذلك يعود لجغرافيتها الخاصَّة جدا: بحار تتغلغل في القارة بعمق فتؤمّن حدودا ثابتة وطُرُقَ اتصال سهلة في الوقت نفسه (ذلك أن نقل سِلع فوق الماء أسهل من نقلها بريا). لم تكن في أوروبا ثروة قبل النهضة، كما لم تكن وحدة الإمبراطورية الرومانية تشجِّع على المنافسة. في الصين وفي العالم الإسلامي توجد مساحات ممتدَّة كبيرة وإمبراطوريات. يقول كوسنداي إن الـméreuporie (الوفرة والرخاء والانقسام السياسي المستقرّ) تنتُج الآن على المستوى القارّي: (الولايات المتحدة، الصين أوروبا والهند). لم يستطع العالَم الإسلامي إذن أن يتجاوز العتبة التي يوجد فيها لأنَّ جغرافيته لم تدفعه إلى هذا البِناء الاجتماعي المتميّز الثري. ويمكن أن نضيف إلى ذلك –كما يلاحظ موريس لومبار-Lombard أنَّه كان يواجه دائما ندرةً في المواد الأولية خصوصا الخشب[18][18]، كما أنَّه طُرِد من طرق المواصلات في غرب البحر الأبيض المتوسِّط بعد معركة Lepante سنة 1571، ومن المحيطين الأطلسي والهندي بازدهار المشروع الاستعماري الأوروبي. أخيرا يمكن للذين لا يقتنعون (أو لا يكتفون) بهذه التفسيرات أن يتأمَّلوا آثار كتاب يعترفون بأن القضية أكثر صعوبة: إما لأن هناك عوامل تدخل في الحسبان، وإما لأن ميلاد العلوم الحديثة حدثٌ فريد وصعبَ التنظير لذا فهو في آخر الأمر يخضع للصدفة –وهو في النهاية التفسير الذي يقف وراء عبارة” المعجزة الإغريقية” نفسها أو عبارة “المعجزة الغربية”- وإمَّا أخيرا لأن فكرة الثورة العلمية الغربية نفسها هي أسطورة تعود إلى “المركزية الأوروبية” أعيدت كتابتها بعد فوات الأوان لتبرير الهيمنة الغربية على العالَم. أخيرا أيضا بإمكان الذين يعترفون بأنه ليس لديهم الكثيرُ يقولونه في المسألة أن يعودوا إلى كتاب أوين جينجيريش-[19][19]Owen Gingerich حيث يشير مؤرِّخ العلوم البارز هذا بعد تأمُّله لهوامش كلّ النُّسخ المعروفة من الطبعات الأولى لكتاب De Revolutionibus لكوبرنيكوس، وهو الكتاب الذي يمكن أن يكون الخطوة الأولى التي قطعها العالمُ الحديثُ في طريق الخروج من مستنقع جهل القرون الوسطى المزعوم، انتبه إلى أنَّه إذا كانت الرياضيات التحتية –التي هي في قسم منها اختراع عربي كما رأينا فيما سبق- قد جلبت إليها اهتمام القراء الأوائل فإنَّه لا أحد قد انتبه حقيقة للفقرات التي تتحدَّث عن المركزية الهيلينية. إذا كان De Revolutionibus هو “الكتاب الذي لم يقرأه أحدٌ” فإنَّه ينبغي انتظار القرن الـ16 لتجاوز ما يُسمِّيه Arthur Koestler “خطّ اقتسام المياه”[20][20] والمعايشة الحقيقية لميلاد العلم الحديث على يد أسماء مثل جوهان كيبلر-Johannes Kepler (1571-1630) وغاليليو غاليلي-Galileo Galilei (1564-1642) وإسحاق نيوتن- Isaac Newton (1643-1727). قبل أن نعود إلى حالة الإسلام يبدو لنا ضروريا في هذا الميدان أن نستعرض باختصار قضية العلاقة بين العلم الحديث والدين في سياق العالَم الغربي. يقترح الفيلسوف والفيزيائي أيان بربور- Ian Barbour (1923- ) ترتيب هذه العلاقة في ثلاثة أصناف: النزاع والاستقلال ثمّ الحوار والاندماج[21][21]. بالنسبة لبربور، أطلق كلّ تخصّص من التخصّصات العلمية الكبرى أثناء اكتشافاته الثورية الأولى فترة نزاع. المثال الرمز بالنسبة لعلم الفلك هو بطبيعة الحال محاكمة غاليليو. نزاعات كهذه تثير طبعا حالة شكّ متبادلة. يبدأ حينها تطور مُفارق قوامه اللامبالاة المتبادَلة، العلم باستقلال أكبر فيتحرَّر من كلّ الآفاق الدينية، والدين بدوره يفقد كل اهتمام بالاكتشافات العلمية. لكن بإمكان وجهات النَّظر أن تتطوَّر، فبعد الطَّلاق يمكن بطبيعة الحال معاودة الحديث عن فضاءات للحوار واكتشافها بحذر. يدعو أيان بربور مع “الاندماج” إلى تطبيع للعلاقات تكون فيه بنَّاءة بقر كاف كي يمكن إيجاد اتفاق حقيقي modus vivendi. وهكذا ظهرت مادة “الحوار بين العلم والدين” في المستوى الدولي[22][22]. في مبادرة التبادل الواسعة هذه، التخصُّصات العلمية المختلفة (الرياضيات والفيزياء وعلم الفضاء والبيولوجيا وعلم الأعصاب) والديانات المختلفة (وبالأخص الديانة المسيحية، لكم اليهودية والإسلام أيضا والعادات الشرقية) مدعوة لتوضيح رؤاها للعالم بدقَّة، بمعية الفلسفة وتاريخ العلوم اللذان يلعبان هنا دور الوسيط اللغوي والمفاهيمي وأحيانا قاضي السَّلام. إذا كان الاندماج هو هدف الحوار ينبغي الاعتراف بأن هناك صيغا كثيرة ممكنة له. ينبغي أن يتمّ الاندماج بالنسبة للبعض بإتباع المشروع القديم، مشروع “اللاهوت الطبيعي” القديم، وفيه ينتهي العلم في الأخير إلى التدليل على وجود الله، أو على الأقل وجود مبدأ التسامي. الأمر عكس ذلك بالنسبة لآخرين، فالله ليس موجودا في مجال الدليل التجريبي أو المنطقي، بل هو موجود في مجال التجربة الداخلية. لا يتم الاندماج إذن من وجهة النَّظر التنظيرية أو الفكرية، بل يتمّ في تجربة الباحثين المعيشة، لأنَّهم مؤمنون هم أيضا[23][23]. أخيرا وبالنسبة لآخرين أيضا وهم الأكثر عددا من دون شكّ، على الاندماج أن يتمّ في المستوى الفلسفي، لنقل حتى الميتافيزيقي، في خطاب عقلاني عام عن العالَم ومقاربات المعرفة.

   لمواصلة هذه النَّظرة العامَّة ينبغي أن نذكر من جهة العلماء واللاهوتيين الذين يُثمٍّنون “حقَّهم في اللامبالاة” في هذه القضية التي لا توجد في قلب اهتماماتهم ومن جهة أخرى المعارضين المُصمِّمين على هذا الحوار الموجود من الناحيتين. من ناحية العلماء نذكر كلّ الذين يعتقدون أنَّ العِلم أوضح في النهاية عدم وجود الله، أو على الأقل لا فائدته الكاملة في وصف العالَم والذين ينتهون إلى أنَّّه ليس للدين أساس لا في الحقيقة الفيزيائية ولا في العقلانية وهو مزعِج أكثر منه مفيد. المثال الأكثر شهرة هو مثال البيولوجي ريشار داوكينس- Richard Dawkinsالذي يُغذّي إلحادَه المناضل من قراءة عقلانية واختزالية للحقيقة[24][24]. من ناحية رجال الدين، ينبغي أن نذكر مثلا موجة الحركة الإبداعية وتغيُراتها الأكثر حداثة، أسلوبها الذكي الذي يهدف إلى إظهار التناقضات المزعومة للعلم وكذا عدم وضوحه (وبالأخصّ نظرية التطوّر وكذا نظرية الفضاء) لاقتراح قراءة حرْفية و”فيزيائية” لحكايات الخلق. التيار الإبداعي متجذِّر كثيرا في بعض الأوساط الإنجيلية الأمريكية. وقد انتشر مؤخَّرا في العالَم الإسلامي خصوصا مع أعمال الدِّعائي التركي هارون يحي، الذي سنعود إليه. لا حوار بالنسبة لهؤلاء أو أولئك إلاَّ ذاك الذي يسمح بإضعاف الخصم في معركة كلّ الضربات فيها مسموح بها. بعمومية أكثر، لا العقلانية التي تعتبر المعرفة ذات طبيعة عقلانية فقط، ولا الروح العِلمية التي تتقدَّم خطوة إلى الأمام وتقصر العقلانيةَ على العلم ولا الوقفية المعرفية-fidéisme الذي تقول بأنَّ الإيمان ليس بحاجة للعقل ولا الحرْفية التي تجعل “القراءة الحرْفية” للنصوص المُقدَّسة في المقام الأول باعتبارها مقياسا نهائيا للمعرفة، وضعيات مفيدة في النقاش. لكن يبقى أنّ العقل النقدي والعِلم كما يُمارَس والإيمان “الباحث عن العقل” (كما يُحدِّد اللاهوت نفسه: fides quarens intellectum) والقراءة التأويلية للنصوص هي الفواعل الأساسية.

   الوضعية الأكثر معقولية التي يمكن أن يتَّخِذها من يهتمّ بهذا النِّقاش والتي يمكننا اعتبارها في النهاية سلوك التيار الرئيسي هي وضعية “الفصل بين القِوى الأستاذية-Les Magistères” وهو مصطلح اقترحه البيولوجي ستيفن جايس غولد-Stephen Jays Gould (1941-2002)[25][25]. يعني هذا بداية، وينبغي قوله بصوت مسموع، أنّ العلم سيِّد في مجالِه، فهو يصِف العالَم بالنظريات التي يُخضِعها للملاحظة وللتجربة. وبغلبة النزعة الرياضية الحسابية عليه أصبح يتنبأ بالأحداث أكثر فأكثر، ويسمح عبر التكنولوجيا بالتصرُّف فيها، أخيرا وبتحديده لأسباب الظواهر أنتج العِلم تفسيرا للعالَم أيضا. لا يتحدَّث العِلم عن “كيف” فقط، لكن يقول “لماذا” أيضا. وبالضَّبط “لماذا” بكلمات “عِلل فاعِلة”. تغدو المُبهمات المُفسَّرَة عناصر علمية جديدة. صحيح أن حلَّ وتفسير بعض الألغاز والغوامض يؤدِّي أحيانا إلى ظهور ألغاز وغوامض أخرى. لكنَّها عبقرية العِلم التي تجعل “جبهة المعارف” تتقدَّم بهذه الطَّريقة.

    من جهتها تتحدَّث الأديان عن الواقع لكن بعبارات ومصطلحات مختلفة. تهتمّ هي أيضا بـ”لماذا”، لكن لماذا ذات طبيعة أخرى هي طبيعة “العلل النهائية”، بمعنى أنَّها تهتمّ بما نسمِّيه “قضية المعنى”. لغتها ليست لغة الرياضيات لكن لغة الأساطير والرموز والعلامات، أحسن من ذلك هي أهل لرسمِ تعقيد الوضع الإنساني إزاء قضية المعنى. لا يبحث الدينُ في مفهومنا الراهن، عن “تفسير” لغز قدر الإنسان ومن ثمّ قدر العالَم الذي يتموقع فيه بقدر ما يُعمِّقه إلى قرار لا حدَّ له. على هذا النحو ينشر –خصوصا في إطار تفسير النصوص واللاهوت- خطاب تساؤل عن الحقيقة النهائية (التي تُسمَّى الله في الديانات التوحيدية) ومكانة الكائن البشري وحريته إزاء الخير والشرّ. ينابيعه مزدوجة: النصوص المُقدَّسة وتقاليد المجموعة من جهة، والعقل والتجربة الإنسانية من جهة أخرى. في مجاله، الدين سيِّدٌ أيضا، بمعنى أن خطابه يوجد بدرجة ظاهرة بقدر كبير أو صغير في مستوى ميتافيزيقي يشكِّل على نحو ما خلفيةً لم تتأثَّر بالخطاب العلمي حول الطبيعة إلاَّ كما “يُعادُ ترتيب” الديكور لتأمين حرية الحركة للممثِّلين فوق الخشبة[26][26]. في سياق الفصل بين الأستاذيات (أو ما أسميناه بالقوى الأستاذية في الفقرة السابقة) هذا، يقوم الحوار بفضل الفلسفة التي هي مقاربة عقلية للواقع وللمعرفة والتي تُقدِّم أدوات فطرية يمكن أن يستعملها فرقاء الحوار.

   هناك بطبيعة الحال صيغ أخرى لفهم الدّين، خصوصا الفهم ذي الطابع الإيديولوجي الذي سيؤكِّد بأن الدين يأتي بكلّ الإجابات التي يبحث عنها الإنسان أو التي هو بحاجة إليها. أُفُقٌ كهذا غير مجبول على الحوار كثيرا ويميل إليه قليلا فقط، إلاّ إذا كان ذلك لغرض تبريري أو دفاعي مع أتباع الديانات الأخرى، أو مع الذين لا يجدون أنفسهم في أيٍّ من الديانات المعروفة أو مع رجال العِلم. أخيرا ينبغي أن نذكر في نظرتنا العامَّة المُختصَرة هذه للنزعات المختلفة، هذا المرض الذي يتمثَّل في “التوافقية أو التوفيقية”. تأخذ التوافقية المراوغةَ الصَّحيحةَ للفصل بين الأستاذيات وتنقُضُها بتأكيدها على أنَّ الوحي والبحث العِلمي يتحدَّثان عن الشيء نفسه وأنّ النصّ الديني سواء في جانبه الأدبي أم عبر تفسيره متوافِق مع معطيات العِلم. المثال المشهور لذلك هو نظرية الـ بيغ بانغ-big bang الخاصّة بالفضاء التي شُبِّهت بطريقة خاطئة بمذهب الخلق من العدم-ex nihilo. اقترح هذا التشبيهَ البابا بيوس XII (الثاني عشر) قبل أن يقوم الراهب جورج لوماتر-Le Maitre (1894-1966) أحد مُنظِّري نموذج الـ big bang بإعادة الأمور إلى نصابها وتحويل وضعية روما حول هذه النقطة. لكي تكتمل النَّظرةُ تنبغي الإشارة إلى أنّ مصطلح big bang نفسه نُحِت كلقبٍ أو كنايةٍ من طرف فْريد هويل-(1915- 2001) Fred Hoyl أحد المُعارِضين الأشدّاء لهذا النموذج الذي يرى فيه هو أيضا وبطريقة خاطِئة صيغة لخطاب الخَلْق متخفٍّ تحتَ قناعِ العلم. التوافقية هي الصّيغة الأكثر سذاجة لإقامة حوار بين العِلم والدين في ازدراء لخصائص كلّ من المقاربتين.

     ماذا يمكن أن يكون إذن مضمون هذه النقاشات؟ لنذكر بعض الموضوعات المتواترة: مع أيِّ فهم لتيار الخلق يمكن أن تتوافق الرواية العِلمية لتطور الفضاء والتطور الجيولوجي والبيولوجي؟ هل العالَم مكتفٍ بذاته أم نكتشف علامات لنوع من عدم الاكتفاء الأنطولوجي الذي يشير إلى وجود حقيقة من طبيعة أخرى؟ أيّ نوع من الفعل الإلهي يكون له مكان في عالَم تحكمه القوانين؟ هل يوجد فِكر الإنسان في ذهنه أكثر من منتوج ردود الأفعال الفيزيائية الكيماوية؟ كيف نطرح حينها فضية حرية الاختيار؟[27][27]. الواقع أن كلّ واحد يأتي إلى ساحة الحوار ومعه أجندته (برنامجه) الخاصَّة. يبحث رجال العِلم عن أفكار فلسفية وحتى لاهوتية تخصّ مسألة معنى اكتشافاتهم والرؤية الواسعة التي يُوفِّرها العِلم. من جهتهم يأتي علماء الكلام ليَرَوا كيف تحظى مسائل قديمة (الخلق، الحرية الإنسانية، الخ) بإضاءات جديدة بفضل المعطيات العلمية. يتموقعُ النِّقاشُ أساسا في “جبهة المعارف” للنظر في كيفية اندراج الاكتشافات الجديدة في إطار النماذج السارية في المستوى العلمي والفلسفي واللاهوتي. الحوار بين العِلم والفلسفة واللاهوت في نهاية المطاف هو قبل كلّ شيء علامة عميقة للعلم على قدرته على اكتشاف العالَم وتفسيره. وهو أيضا بالنسبة للديانات مناسبة لمحاولة توضيح أنَّه من “المعقول” الإيمان والتحرّر من النّزعات الحرْفية التي تُسطِّح طموحه. أخيرا يُعطي هذا الحِوار مضمونا لحوار الثقافات و”الأديان” المدعو إلى التبادل في مستوى التراث الإنساني المُشتَرَك.

     بعد هذا العرض المُركَّز والمُختَصَر من المناسب الآن أن نتساءل عن موقع (أو وضعية) المسلمين في هذا الحِوار. ليس هناك بطبيعة الحال اتفاق حول الموضوع. لقد التقى العالَم الإسلامي بالعلم الحديث في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر عبر تطبيقاته التكنولوجية العسكرية منها خصوصا التي جرى توظيفها أثناء الاحتلال. لكنّ حالة وعيٍ حادٍّ حدثت عندما أخذ مجموعة من المُفكِّرين المسلمين الرواد، الذين ينبغي الإشارةُ ضمنهم إلى جمال الذين الأفغاني (1838-1897)، عِلما بالانتقادات اللاذعة التي وجَّهها غربيون للحضارة الإسلامية، خصوصا المحاضرة الشهيرة التي ألقاها إرنست رينان-Renan في السوربون سنة 1883. المسلمون بالنسبة لرينان كما نعلم وبحكم شكل “عقلهم” والأُفُق الخاصِّ بدينهم، غير قادرين على التفكير العلمي، لم يكن لهذا العقل واختراعاته حق في الوجود إلاّ بصورة مؤقَّتة في الحضارة العربية الإسلامية في الحِقبة القديمة. ردّا على ذلك أكَّد المفكِّرون المسلمون أمثال جمال الدين الأفغاني في البداية ثم محمّد عبده (1849-1905) ورشيد رضا (1865-1939) أو محمَّد إقبال (1877-1938) أن لا شيء في أهداف العلم ومناهجه يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي. والنتيجة بالنسبة لهم هي إنَّ على العالَم الإسلامي أن يستعيد المشعلَ، مشعلَ المعرفة العلمية، الذي كان قد حمله في السابق بحمية وحماس والمتروك الآن بين أيدي الأوروبيين. وحدها القراءات العلمية ذات الطابع المادي أو العلموي؟-scientistes هي التي ينبغي رفضُها، أيضا الفصل التام بين العِلم والأخلاق المُتَّبَع في الغرب (حتَّى وإن احترم عدد من العلماء أخلاقيات خاصّة أو مهنية، لحسابهم الخاصّ). حسب هؤلاء المفكِّرين أنفسهم، إذا كان العالَم الإسلامي قد تمكَّن من الوقوع في حالة من الضعف والتخلُّف في القرن الـ19 مكَّنت من حدوث الاحتلال، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى الجمود الذي تمكَّن من الفِكر الإسلامي بعد الفترة القديمة الكبرى لمَّا تُسُرِّع في “غلق باب الاجتهاد” أو المجهود الفردي في التفسير وقُرِّرت المحافظة والتقليد الأعمى كقيمة أولى. ما حدا بهم إلى الدَّعوة إلى نهضة فكرية لن تكون ممكنة إلا بإصلاح فهمنا للإسلام. أخذ هذا الإصلاح في النهاية مسار “عودة إلى النصوص” تُفرِز بديلا: هل يجب تحديث الإسلام أم أسلمة الحداثة؟ مازال العالَم الإسلامي اليوم إزاء هذا السؤال المطروح منذ مئة عام.

    انطلاقا من هذا الوعي لدور العِلم ظهرت ثلاثة اتجاهات كبرى نفضِّل تسميتها هنا بـ: “الحداثيون”، و”معيدو البناء والتعمير”، و”دعاة الاستمرارية”.

     لا يعتبر الحداثيون إثر إصلاحيي القرنين الـ19 والـ20 أنَّه لا توجد في ثنايا العِلم أشياء سيِّئة فقط، بل يعتقدون أيضا أن مشاكل العالَم الإسلامي تأتي من عدم كفاية تطوّر الفكر العِلمي. ينبغي توبيخ الغرب، الذي هو مُنتِج الاكتشافات العلمية في الظَّرف الراهن، فقط من أجل رؤيته المادية ولا مبالاته بالأخلاق. ما يُسمِّيه هذا التيار بالعِلم هو ما تعلَّق بعلوم الطبيعة، وليس ما خصَّ العلوم الإنسانية التي غزتها النزعات المادية الغربية أكثر من غيرها. يُعتبَر العلمُ مُزوِّدا بـ”ظواهر” محايدة في ذاتها. وهكذا استطاع علماء مثل عبد السَّلام (1926-1996) الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979، أو حديثا أحمد زويل (1946- ) الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999 أن يكونوا مُحامين للتطور العِلمي الحديث في العالَم الإسلامي. يُذكِّر هؤلاء المدافعون عن العلم بالفترات النَّاصعة من الحِقب التي ازدهرت فيها العلوم في الإسلام وبالقائمة الطويلة من العلماء المسلمين “الذين أهملهم التاريخ”، ويبحثون عن بناء مستقبلٍ يقومُ على ترقية الدَّور المُحرِّر للتربية. ليست هناك بالنسبة لهم إلاَّ طريقة واحدة لممارسة العِلم. ليس “العِلم الإسلامي” في الحقب الزاهرة شيئا سوى العِلم الكوني، مارسه علماء ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية.

    لكنَّ هذه الوضعية تلقى نقدا قاسيا. الواقع أن خصومها يقولون إنَّها تنطلق من رؤية “بطولية” للعلم، أي من رؤية لا تتطابق مع الطريقة التي يُمارَس بها العِلم حقيقة. ذلك أنَّه لا يمكن فصل هذا الأخير (العلم) عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتبلور فيه. يرفض التيار الفكري الثاني، مُستنِدا إلى هذه الحقيقة، فكرة العِلم الكوني هذه، ويؤكِّد على ضرورة تفحُّص الافتراضات الإبيستمولوجية والمنهجية للعِلم الحديث ذي الأصول الغربية، الذي لا يمكن قبوله (كما هو) في العالَم الإسلامي. يتَّكئ هذا التيار على النًَّقد الصادر عن الفلسفة وتاريخ العلوم. كارل بوبر (1902-1994) وطوماس كوهِن (1922-1996) وبول فويوراباند (1924-1994) ساهموا كلٌّ بطريقته في مُساءلة مفهوم الحقيقة العلمية وطبيعة المنهج التجريبي واستقلال مُنتجات العلم إزاء المحيط الثقافي والاجتماعي الذي ظهرت فيه. في مناخ مطبوع بقوة بالنسبية ومضادَّة الواقعية الخاصّ بالتفكيكية الـ ما بعد حداثية يرفض نقادُ العلوم الغربية المسلمون الفكرةَ التي تقول إنَّه لا توجد سوى طريقة واحدة لممارسة العِلم. إنَّهم يبحثون عن تأسيس مبادئ لـ”عِلم إسلامي” بتجذير المعرفة العلمية والنشاط التكنولوجي في أفكار التقاليد الإسلامية وقوانين الشَّريعة بإيحاءات ناتجة عن اختلافات التفسيرات.

    هكذا بلور اسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986) برنامجا لأسلمة المعرفة رُبِط سنة 1981 بـ”المعهد الدولي للفكر الإسلامي-The International Institute of Islamic Though” على إثر تجارب وأفكار مسلمين عاملين في جامعات ومعاهد بحْث في أمريكا الشمالية. يستند هذا البرنامج إلى التحقُّق من ضجر و”لا راحة” الأمَّة الإسلامية الناتجة عن استيراد نظرة للعالَم غريبة عن النظرة الإسلامية. أسلمة المعرفة عامَّة وجامعة بالنسبة للمعهد الدولي للفكر الإسلامي: إنَّها تنطلق من كلام الله الذي يُمكن ويجب أن يُطبَّق على كلّ مدارات النشاط الإنساني منذ أن خلق الله الإنسان خليفة له في الأرض. تتصوَّر أعمال المركز مشروعا لتطوير الممارسة العِلمية ضمن رؤية علمية للعالَم وللمجتمع. تتطلَّع مبادرة المركز إلى العلوم الإنسانية أكثر منها إلى علوم الطَّبيعة المُعتبَرَة أكثر حيادية من وجهة النَّظر المنهجية.

     مُفكِّرون آخرون، مثل ضياء الدين سردار (1951- ) وأعضاء مدرسة الفِكر الشكلي بقدر يقلّ أو يكثر والمُسمّى “الإجمالي” (هكذا يُسمِّي نفسه قياسا بالنَّظرة التركيبية الإجمالية التي يقترحها)، واعون للخطر الذي تُمثِّله على الإسلام النظرةُ الغربيةُ إلى العالَم التي يأتي بها العلم. تحقّقوا وهم متأثرون بعمق بتحليل كوهِن للتطوّر العِلمي أنَّ العِلم والتكنولوجيا الآتِيَيْن من الغرب ليسا نشاطين مُحايدين لكنَّهما يشاركان في مشروع ثقافي ويصبحان أداة للدعاية لمصالح الغرب الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية. لاستيراد العِلم والتكنولوجيا الحديثين إلى الإسلام ينبغي “إعادة تشكيل” الأُسُس الإبيستمولوجية للعلم ضِمن أُفُق ربط مختلف مجالات الحياة الإنسانية الخاصَّة بالإسلام بعضها ببعض. لهذا السَّبب اخترنا تسميتهم بـ “معيدو التشكيل-les reconstructionnistes”.

    التيار الفكري الإسلامي الثالث، هو الذي أسميناه بتيار “دعاة الاستمرارية” مطبوع بتفكير مُعمَّق في الأُسُس الميتافيزيقية للنَّظرة إلى العالَم التي تقترحها التقاليد الإسلامية. يبدو سيد حسين نصر (1933- ) وكأنَّه أهمَّ اسم في هذا التيار. إنَّه يدافع عن فكرة العودة إلى مفهوم العِلم المُقدَّس. ينبع هذا التيارُ من نقد العالَم الحديث المُقترَح من كُتَّاب مثل فريث يوف شيون-Frith Jof Schuon (1907-1994) وتيتوس بوركهارت-Titus Burckhardt(.(1908—1984  لا يُندِّد نصر بـ”لا راحة” الأمَّة وضجرها، ولكن بلا راحة وانزعاج المجتمعات الغربية التي يستبدُّ بها تَطوّرُ معرفة علمية مُنغرِسة في مقاربة كمية للحقيقة والواقع وهيمنةٍ للطبيعة تنتهي بتحطيم خالص لهذه الأخيرة. وضعية نصر والمدافعون الآخرون عن هذا التيار التقليدي الذي فضل البعضُ تسميتَه بـ”الاستمراري” (قياسا إلى مرجعيتهم التي هي Sophia perennis، وهم ناقلوها) تترسَّخُ ليس فقط في نقد الإيستمولوجيا الغربية ولكن بإعادة نظر مُعمَّقة في النظرة الغربية للحقيقة إذْ تختزِلها في المادَّة وحدها. يقترحُ الاستمراريون مذهبا للمعرفة كتتابُع للظهور، تبدو فيه الحقيقةُ والجمالُ جوانب مُتكاملة لحقيقة نهائية واحدة. إنَّهم يتمنون من أعماقهم إعادة بعثِ نظْرَةٍ روحية للعالَم وإعادة الاعتبار لـ”العلم الإسلامي” التقليدي الذي كان يُحافِظ على انسجام الكائن في الخَلْق. هذه الوضعية الجذرية يتَّهمُها نُقادها بالمقابل، بنوع من النخبوية تُبرزُ صعوبةَ تحقيقها لبرنامجها في الظروف الحالية.

    حان الوقتُ الآن لتحديد موقع هذا الكتاب ضمن مجموع هذه الإشكالية. ما هو مُتميِّز في الوضعيات الثلاث المذكورة سابقا هو أنَّها تشتغل خصوصا كمُسْبَقات-des a priori نموذجية تتقدَّمُ تطبيق العِلم كما هو مُمارَس حقيقة في المخابر في انصراف عن القديم. المؤلِّفون هنا هم على العكس من ذلك باحثون في العلوم الموصوفة بـ”الصّلبة” (الرياضيات، الفيزياء، علم الفلَك، البيولوجيا) أو في العلوم الإنسانية (الفلسفة، التاريخ، الفِكر) ويتَّجهون خصوصا إلى التعلُّق بالتفكير في الحوار بين الدّين والعلم انطلاقا من مجال تجربتهم التخصُّصِية وتجربتهم العملية. إذن لن نجد هنا رسالة تلقائية حول الحوار بين العِلم والدين في الإسلام (الرسالة التي تبقى في انتظار من يكتبها إذن) ولا تبريرا للإسلام بالعلم (الذي لن يكون له أيُّ معنى، لا من وِجهة النَّظر الدينية ولا بطبيعة الحال من وِجهة النَّظر العِلمية)، ولا تبريرا للعِلم بالإسلام ممَّا لن يكون أيُّ معنى أيضا، لكن فِكرا عمليا في العالَم الإسلامي، يفتح طُرُقا نحو حِوار بين الثقافات، وفهم مُتبادَل حقيقي بين كلّ من هم معنيون بالمغامرة العلمية.

     هذا الكتاب مُقسَّم إلى أربعة أقسام: تأمُّل لأهمية نموذج “التوحيد” للفكر الإسلامي ومُقارنته بنموذج يحمل الاسمَ ذاتَه في العِلم، تحليق انتقائي لبعض جوانب الفكر الإسلامي القديم (الفلسفة، علم الكلام، الروحانيات) التي تفتح عددا من طُّرُق الحوار التي أُغلِقت. تأمُّل لثلاث وضعيات مثالية للحوار مأخوذة من ثلاثة مجالات تخصُّصية خاصَّة (الرياضيات، الفيزياء، ونظرية التطوّر)، وأخيرا خاتمة تتحدَّث عن أخطار الحَرْفية والتوافُق اللذين يُلوِّثان النِّقاش حاليا في العالَم الإسلامي وأيضا بعض الأرضيات من أجل شكل من التكامُل بين الفكر العِلمي والفِكر الدِّيني ضِمن رؤية مُتجدِّدة للعالَم.

     فكرة الوحدانية مركزية في الفِكر الإسلامي. الفعل الإيماني المركزي في الإسلام هو إعلان وحدانية الله المُطلَقَة. اللهُ الواحدُ خلقَ العالَمَ ووضع فيه الإنسان، وهو لا يني يُعلن عن نفسه بواسطة تتابع الأنبياء. تنعكس وحدانية الله إذن في وحدانية الخَلْق والنِّظام الذي يُسيِّرُه، وفي وحدانية النَّوع الإنساني المخلوق من أجل معرفة الله (حسب طبيعة روحانية يُسمِّيها الإسلام بـ”الفطرة”) وفي الوحدانية العميقة للدين القيِّم المتجاوزة لتعدُّد الرسالات الإلهية الذي يعكس تعدُّد اللغات والثقافات. يُشارُ إلى مركزية هذه الوحدانية الإلهية في تعاليم الإسلام بمصطلح التوحيد، الذي يدلّ على “تأكيد الوحدانية الإلهية” و”التوحيد” في الوقت نفسه. والواقع إنَّه كما أنَّ الله واحد يجب على الأمة الإسلامية أن تبحث عن الحِفاظ على وحدتها في المستوى الروحي، ويجبُ على الكائن الإنساني نفسه الذي تُقسِّمه أفكارُه المُتناقضة وشهواتُه أن يتوحَّد (أي أن يكون واحدا وليس وحيدا أو مُعتزِلا- المترجم).

    ليس من الغريب إذن أن ينشغِل الفكرُ الإسلامي بإشكالية توحيدية خرجت من رحِم العِلم الحديث. ما الأمر؟ نعلم أن فعالية العِلم كانت نتيجة لاختزال الظواهر إلى مكوِّناتها الأساسية التي فتحت بذلك إمكانية شرح المُركَّب انطلاقا من البسيط. في الوقت نفسه قام برنامج توحيدي بطيء في البداية ثمَّ سريع بعد ذلك، لفهمنا للمكوِّنات الأساسية للطبيعة. هكذا استطاع نيوتن أن يُبِيِّن عبر قانون الجاذبية “الكونية” أنَّ الظواهر التي تبدو غير ذات علاقة ظاهريا مثل سقوط تُفَّاحة على الأرض، دوران القمر حول الأرض ودوران الأرض والكواكب الأخرى حول الشَّمس والجَزْر أُنتِجت بفعل قانون واحد ووحيد لانجذاب الكُتل عن بُعد. كان قانون نيوتن تنبؤيا وكان أساس كلّ الميكانيكا الفلكية. ومع ذلك بقيت لُغزا حتَّى “فسَّرتها” نظرية الجاذبية العامَّة على أنَّها منحنى للمكان الزمان. في نظريته عن النسبية الضيِّقة بيَّن ألبرت اينشتاين (1879-1955) أنَّه ممكن فهمُ الكتلة والطَّاقة من جهة والزمان والمكان من جهة أخرى ضِمن إطار مُوحَّد، وأن الثنائية الثانية ليست مُجرَّد ديكور جامد لحركات الثنائية الأولى، لكنَّه متأثِّر به أيضا. هذا التوحيد كان قد بدأ قبل ذلك مع معادلات جيمس كليرك ماكسويل (1831-1879) التي جمعت الكهرباء والمغنزيوم في تشكيل واحد. ثمَّ حدث بعد ذلك اكتشاف القوة الموصوفة بالضَّعيفة ثمّ القوة القوية. فُهم حينها أن الشكلانية القديمة، شكلانية نيوتن حتى بعد أن راجعها اينشتاين لا تستطيع وصف حركة المادَّة كما هي ولا التفاعلات حتَّى في المستويات الصغيرة جدّا. رأت نظريةٌ عامَّةٌ جديدةٌ النّورَ: الميكانيكا الكوانتية التي سنعود إليها. ضمن هذا الإطار وُصِفت التفاعلات المغناطيسيةُ الضَّعيفةُ والقوية. ثمَّ انتُبِه بعد ذلك إلى أنّ التفاعل المغناطيسي والتفاعلَ الضَّعيف يمكن أن يتوحَّدا في إطار نظرية وحيدة.

    أصابت النَّظرةَ التي كانت لنا عن المادَّة حركةٌ مشابِهةٌ مع الفرضية الذرية لجون دالتون-Dalton (1766-1844) ثمّ اكتشاف أنّ كلّ المواد يمكن أن تتحلَّل إلى عدد مُحدَّد من العناصر البسيطة (العناصر الـ92 للترتيب الدوري لـ ديمتري مندليف- Mendeleïev(1834-1907)، وأخيرا التطابق بين كلّ عنصر ونوع من الذرات بعدد مُعيَّن من البروتونات (الرقم الذري الذي يُحدِّد طبيعة العنصر) والنيترونات والإلكترونات. البروتونات والنيوترونات نفسها من جزيئات أكثر أساسية، الكواركات-quarks المرتبِطة فيما بينها بتفاعُل قوي. على هذا النحو ظهر النموذجُ المُوحَّد لفيزياء الجزيئات الذي يتضمَّن اثني عشر جُزيئا (وجزيئاتهم المضادة) وموجّهات التفاعلات الإلكتروضعيفة والقوية. لا ينقُصُ في الشَّكل إلاّ كشف جزيء احتاطت له النَّظرية: بوزون-boson  هيجس-Higgs الذي يمنح كُتلة للجزيئات الأخرى.

   أمام نجاحٍ كهذا باشر الفيزيائيون مُتابعةَ مبادرة توحيد التفاعلات القوية والإلكتروضعيفة (وهي النظريات المسمَّاة بنظريات التوحيد الكبير)، ثمّ توحيدُ وصفِ المادَّة وتوحيد وصف التفاعلات الإلكتروضعيفة والقوية (وهي النظريات المُسمَّاة التناسقية الكبرى- .(super symétriqueأخيرا وبدفع من حركة عميقة، استُكشِفت نظرياتُ أكثر توحيدية وأساسية، خصوصا نظرية “الجِبال الكبرى؟-super cordes” التي بإمكانها أن تسمح بتوحيد الجاذبية والقِوى والجزئيات الأخرى. ينبغي أن نكون واعين لأنَّ حركة التوحيد هذه تتِمُّ دائما نظيرَ تعقيد مُعيَّن: يتنبَّأ التناسق الكبير بوجود نماذج أخرى من الجزئيات غير ملحوظة بعد (لكن بالإمكان أن نكون بحاجة لهذه الجزيئات لتفسير “المادَّة السوداء” التي تملأ الكون)، وطالبت نظرية الحبال الكبرى بوجود مكان بعشرة أبعاد مكانية التي ينبغي التفسير الجيِّد لعدم ظهورها في التجارب المُنجَزة حتى الآن (كي لا نتحدَّث عن المعنى المُشتَرَك).

     ما هي إذن الوضعية الحالية التي يُستدعى إليها تفكيرنا؟ إنَّها وضعية أزمة فيزياء أساسية تُجابه في الظَّرف الراهن مشاكل تجدُ عناءً في حلِّها[28][28]. يُقدِّم جمال ميموني وعبد الحقّ حمزة قراءتين ممكنتين هما في الواقع مرتبطتين بالفهم التامّ أو الجزئي للعالَم. وجود القوانين في العالَم غير قابل للتفسير من وِجهة نظر مُعيَّنة. ترى النَّظرةُ إلى العالَم في الديانات التوحيدية أنّه مخلوق من الله الذي وضع فيه من ذكائه كما وضع فينا من ذكائه عند خَلْقِنا. من حينها إذن يوجد لدى الإنسان نزوع لفهم العالَم الذي هو معقول ومفهوم بالنسبة له. ومع ذلك ليس هناك ما يضمن لنا أنَّ استكشاف العالَم هذا يمكن أن يتواصل بنجاح إلى ما لا نهاية. هناك إذن مكان لمنظور إيجابي أو cataphatique هو الذي يُدافِع عنه هنا جمال ميموني الذي يُرسِّخ وضوحَ العالَم ووجدته في وحدانية خالقه، ولمنظور ذي طبيعة سلبية أو apophatique يقترحه عبد الحق حمزة الذي يُذكِّر بانتهائيتنا-finitude ويُنذرنا بأنَّنا لا تعرف في نهاية الأمر. يتعايشُ المُقترحان في الفكر الإسلامي، كما أنَّها تتعايش بطبيعة الحال وبأشكال مختلفة كثيرا في الفِكر المادّي. في المُحصِّلة، تبدو مسألة إمكانية “نظرية للكلّ (أو كلية)” مُشكِلا مُحايِدا من وجهة نظر المنظور الإسلامي.

     يتواصل الكتاب بالنَّظر في بعض دروس الماضي التي يمكن أن تكون ذات فائدة في إضاءة الحاضر. لنبدأ بمحمَّد الطاهر بن سعادة الذي يستدعي لحظات مُتميِّزة من الفِكر الإسلامي بعد اتصاله بالفكر الفلسفي الإغريقي، مُمثِّلة في آثار بن رشد. أكدَّت أجيال من المُفكِّرين بأنَّه بما أنّ الله واحد فإنَّ الحقيقة لا يمكن أن تكون إلاَّ واحدة. العقل والإيمان لا يتصارعان في الحقيقة أبدا. ينبغي حينئذ تحديد أصل الخلافات الظَّاهرة. بالنِّسبة لابن رشد كما نعلم، ينبغي أن يُعادَ تفسيرُ النصوص المُقدَّسة كي يُحلَّ الخلافُ الظَّاهرُ. كان ابن رشد في سياقه الزَّمني يُفكِّر فيما نُسمِّيه اليوم بالتوفيقية، لكن رسالتَه مفيدة بطبيعة الحال لتأويلات رمزية وبلاغية أصبحت مُفضَّلة من المُفسِّرين. باقتراحه هذه الصيغة من الاتصال يزعم بن رشد أنَّه يأتي بفصل المقال في العلاقة بين الشريعة والحكمة العقلية (وهو في الحقيقة عنوان كتابه: فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، (نستطيع أن نقول الآن/ بين الشريعة والعقل). العقل –الذي سنُسمِّيه منذ الآن بـ”العقل الدوغمائي”- هو بالنسبة لابن رشد قادر على الوصول إلى أي حقيقة يقدر عليها الإنسان. هذه المقاربة مُخصَّصة لنخبة حسَّاسة تِجاه الدَّليل أو البرهان، فيما الأكثرية حسَّاسة أكثر تجاهَ الحجج الجدلية أو البلاغة. حينها ما هي في النهاية مكانة الدِّين في هذا المنظور؟ يستكشف محمَّد الطاهر بن سعادة ابيستمولوجيا بن رشد ويرسم فيها مكانا مُحترما لعلم النبوءات-prophétologie. الأنبياء بالنسبة لابن رشد مُكلَّفون في الواقع بالإتيان بالحقائق تحت أغطية الرموز لجعلها في متناول مختلف المُتلقٍّين. النبي إذن أعلى مرتبة من الفيلسوف بما أنَّه يقترح الحقيقة كاملة بمقدرته على جعلها في متناول كلّ المتلقِّين، بهذا يرسم بن رشد بطريقة مُعيَّنة عالَما لـ”الفصل بين الأستاذيات” لكن في مستوى كيفيات التبليغ.

     يتناول كريم مزيان علم الكلام الكلاسيكي في الإسلام المُنتَج في سياق التطورات الأولى للفلسفة واكتشاف لاهوت الآخرين (خصوصا اللاهوت المسيحي) لكن أيضا بفعل دفع إشكالياته الداخلية. النقاشات الأولى دفعت إليها مسألة الحرية الإنسانية والعدالة الإنسانية بعد الفِتنة الكبرى التي تقاتل أثناءها المسلمون على الخلافة فيما بين سنوات 656 و661م، أقلَّ من ثلاثين سنة بعد وفاة الرسول (ص) سنة 632. انطرحت فيما بعد قضايا أكثر خصوصية حول طبيعة القرءان (مخلوق أم غير محلوق) وتصوّر الله في جوهره وصِفاته. أولى المستخلصات الكلامية الكبرى كان ذاك الخاصّ بالمعتزلة بعد واصل بن عطاء (700-748) الذي علَّم في دروسه معقولية العدالةَ الإلهية، ومن ثمَّ المسؤولية الإنسانية الكاملة. لكنّ مُستخلَصا آخر فرض نفسه أخيرا في العالَم الإسلامي ذي الأكثرية السنية وهو الأشعرية نسبة إلى أبي الحسن الأشعري (874-936) الذي فتح طريقا وسطا بين معقولية صفات الله وأفعاله وأوامره، والاعتراف بعدم القدرة على الفهم حقيقةً. من جوانب الكلام المعتزلي والأشعري فهمُهُما للطبيعة القائم على الذَرية. هم في هذا مختلفون عن المُستخلصات المدرسية مثلا المؤسَّسَة على الفلسفة الأرسطية حيث “لاتقوم الطبيعة بقفزات”. النقطة التي تهمُّ كريم مزيان هنا هي اكتشاف الاستدلالات المدرسية التي نجدها في كلام المُعتزلة. بإمكان مُستخلَص كلامي جديد في العالَم الإسلامي يأخذ في الحسبان فلسفة الطبيعة الحالية، أن يُتابع الدَّفع الذي بدأه هؤلاء المتكلٍّمون الأوائل. من جوانب الذرية المعتزلية والأشعرية علاقتهما بمذهب “تجديد الخلق” الذي يؤكِّد أنَّ العالَم غير مُكتَفٍ بذاته بل هو مخلوق من الله، والأمر مفهوم على أن الخلق يتجدَّد في كلِّ حين. هنا يُطرح سؤال السَّببية التي هي أساس كلّ علم حديث. يُبيِّن الدَّرس المُتأنَّي لهذه الإشكالية أنَّ الأمر يتعلَّق هنا بإشكالية ميتافيزيقية غيبية أكثر ممَّا يتعلَّق بإشكالية فيزيائية. يسنُّ الله في الواقع عادة أو سُنَّة في العلاقات بين الظَّواهر. إذن كلُّ شيء يجري أمامنا في الواقع كما لو أن السببية قائمة. في الوقت نفسه لا يُغادر الله العالَم ويُبقيه في الوجود في كلّ لحظة.

    الفلسفة وعلم الكلام ليسا المجالين الوحيدين للفكر الإسلامي قديما. ينبغي أن نذكر أيضا التيار الفِكري الروحي المُسمَّى بالصوفية الذي استعرض إريك جوفروا- Eric Geoffroy انطولوجيتَه وإبيستمولوجيته ضمن السياق الذي يهمُّنا هنا. كان المتصوٍّفة مهما كانت طبيعتهم -قديما أو حديثا- زُهادا مُنتجين لحِكَم أو شعراء مُتغنِّين بقدرة الله، أو مُعلِّمين يُقدِّمون دروسا مذهبية، أو كلّ هذه الأمور مجتمعة يؤكِّدون على الاختلاف الجِذري بين كمال الربّ والخلوِّ الجذري للعبد. جهاز المعرفة بالنسبة لهم هو القلب الذي يتَّجِه بطبيعته إلى الدُّنيا والذي يجب عليه أن يتعلَّم أن يتَّجِه إلى الله. للعبد حينها ثلاث طُرُق إلى المعرفة ترمز إليها ثلاثة مصطلحات قرءانية: السَّمع الذي هو علامة خضوعنا للرسالة الإلهية المُتضمَّنَة في الوحي. البصر الذي يُمثِّل قدرتنا على رؤية العالَم وفهمه بذكائنا، وأخيرا البصيرة، التي هي القناة التي يمكننا أن نتلقَّى عبرها المعارِف مباشرة من الله.    يُذكِّرنا إريك جوفروا بوجود مظاهر “إثبات صفاته تعالى وتعديدها-cataphatisme” و”-apophatisme” في الفِكر الصوفي الذي يبرز الكشف الإلهي عمَّا يُمثِّله الخلق وأماكن وعلامات الرسالة الإلهية وكذا السرَّ الإلهي العميق الذي سيبقى خفِيا عنَّا إلى الأبد. لن تبقى حينئذ سوى الدَّهشة والحيرة. اعتراف أبي بكر خليفة رسول الله الأول الذي مفاده إن “عدم القدرة على المعرفة هو في حدِّ ذاته معرفة” هو مفتاح الصوفية، ويُوفِّر أيضا مجالا مُهمَّا للحوار مع الإبيستمولوجيات المعاصرة وخطابهم عن حدود العقل.

     بعد هذه الأمثلة المأخوذة من الماضي منظورا إليها بعيون مُعاصِرة، من المُهمّ أن نطرح سؤال قُرَّاء النظريات الحالية. كيف نفهمها ضِمن نظرة جامِعة للحقيقة التي يكون فيها الله سبحانه موجودا دون مُخالفة قوانين الطَّبيعة أو توقيفها؟ تُمكِّن حقولٌ تخصُّصية كثيرة من قراءات مُهمَّة ومُتزامنة وإن كانت غير مكتملة وذاتية بالطَّبع. ثلاثة أمثلة مذكورة هنا: نظرية عدم الاكتمال في الرياضيات، قضية طبيعة الحقيقي/الواقعي واللاموضعية في الميكانيكا الكوانتية، ودور الصُّدفة في نظرية التطوّر في البيولوجيا.

    يُذكِّر عدنان بن عبد السلام بالصَّدمة الناشئة عن اكتشاف نظريات عدم الاكتمال-incomplétude في الرياضيات. نتذكَّر من دون شكٍّ سياق هذه الاكتشافات: برنامج دافيد هيلبرت-Hilbert (1862-1943) الرياضي الشهير الذي كان يتمنَّى القدرة على الوصول إلى تشكيل مجموع الرياضيات، أي إمكانية إيجاد منهجية عامَّة لمعرفة ما إذا كان أيُّ مُقتَرَحٍ رياضيٍ مُثبَتٍ شكلا، صحيحا أو خاطئا. يعود هذا في الواقع إلى إمكانية تشكيل مجموع الرياضيات في بناء واحد مُنسجم ومُنظَّمٍ، أي تحويل مجموع الرياضيات في النهاية إلى رياضيات واحدة مُوحَّدة تستند إلى أُسُسٍ مُشترَكة. تبخَّر هذا الحُلم سنة 1931 عندما قام كورت غودل-Gödel (1906-1978) بتعريف هذه النَّظريات الشهيرة. لقد أوضح في الواقع وبطريقة مُلفتة وفَطِنة أنَّه في إطار أيِّ نسقٍ مُسلَّمات كان، قوي بقدرٍ كافٍ لإدخال الحساب (أي غير عادي) توجد مقتَرحات مُثبَتة لا نستطيع إثبات صِحَّتها أو خطئِها، بمعنى إنَّها غير قابلة للتحديد الدّقيق. بمعنى آخر أنَّه مهما كان نسق المُسلَّمات الذي نتموقع ضمنه (ما كُنَّا أسميناه بالأُسُس) هناك دائما قِطع من الرياضيات تفلت، بمعني أنَّه لا يمكنها أن تكون جزءا من البناء المُشيَّد على هذه الأُسُس. نستطيع بطبيعة الحال اختيار توسيع الأُسُس لإدخال هذه القِطَع المتمرِّدة لكن المشكلة ستكمن في مكان آخر. والنتيجة إذن هي إنَّه مهما كانت أُسُس الانطلاق هناك كثير من الصِّحة والخطإ في الرياضيات ممَّا هو قابل بالفعل للإظهار. كان كورت غودل قد بلور توضيحه بتشكيل مُقتَرَح غير قابل للتحديد الدقيق مُطوَّر بقدر كاف، ويمكننا أن نعتقد في النهاية أنَّ الأمر هنا لا يتعلَّق إلاَّ بحالة مرضية. لكن جرى الانتباه بعد ذلك مع أعمال آلن تورينغ-Alan Turing (1912-1954)، وحديثا مع غريغوري شيطين-Grégory Chaitin (1947- ) إلى أنَّ قضية عدم القدرة على التحديد عميقة في الرياضيات، مثلما هو الحال في الإعلام الآلي. طبيعي أنَّ التعرّف على حدود الرياضيات بنظرية نقول عنها “ميتارياضية” هو إحدى النتائج الأكثر أهمية في القرن الـ20. بما أنَّه لا يمكن للرياضيات أن تكون مؤسَّسة تماما انطلاقا من مجموع مُحدَّد من النظريات، ما هو إذن قانون (أو وضعُ) المقترحات الرياضية الصَّحيحة؟ هل هي من بنات أفكار الرياضيين أم يمكننا القول على نحوٍ ما إنَّها موجودة بمعزِل عن الرياضيين وهي إذن من اكتشافهم مثلما هي “قوانين الطبيعة” مُكتَشَفَة من الفيزيائيين؟ حدود قدرة النُّظُم المُشكَّلة هذه هي بالطبع مهمَّة جدا، للمنطق النقدي وللفكر الفلسفي عن العالَم في الوقت نفسه. يُقدِّم لنا عدنان بن عبد السَّلام أفكارَه انطلاقا من وِجهة نطر إسلامية.

    مثَّلت الميكانيكا الكوانتية ثورة مفاهيمية معتبرة مازال اتساعها يُقاسُ بعد قرن تقريبا من حصولها. نعلم أنَّها في قطيعتها مع الفيزياء الكلاسيكية التي أنشأها اسحق نيوتن وأيضا مع نظرية النسبية الضيقة التي تصوَّرها ألبرت اينشتاين في الوقت نفسه تقريبا، تصف النظرية التحليلية/الكوانتية الظواهرَ الفيزيائية عن طريق التنبؤ بصفة احتمالية بنتائج القياسات. نتيجة مهمَّة لهذا الأُفُق هي ما نُسمِّيه باللاتحديد الكوانتي: لا يمكن أن تُجرى بعضُ القياسات بالتزامن بالدّقة الكبيرة التي نؤمِّلها. هكذا مثلا، لا نستطيع أن نعرف بدقَّة وضعية وسرعة جزيءٍ أولي. النظرية الكوانتية هي في الواقع الوصف الأكثر أساسية للفيزياء (بما أنَّها تتعلَّق بالأشياء الأولية الصغيرة الحجم) وربَّما هي مُشتقَّة من ميكانيكا نيوتن بمسار يوصف بـ”التحليل (أو التجزيء) إلى كميات صغيرة-quantification” (ومن النسبية الضيِّقة لما لا تكون السرعات صغيرة أبدا أمام ِc، سرعة انتشار الضوء). وحدها تفلت الآن نظريةُ الثٍّقل/الجاذبية من قبضتها. أثار ازدهارُ الميكانيكا ثمّ الفيزياء التحليلية/الكوانتية ردودَ أفعال قوية ذلك أن تفسيرات مختلفة لإطارها النَّظري ممكنة. بالنسبة للقراءة “العملياتية” المسمَّاة قراءة مدرسة كوبنهاغن التي يعتبرُ  نيلز بوهر-Niels Bohr  (1885-1962) أحد آباء النَّظرية، مِمَّن طوَّروها ضمن آخرين، النَّظرية هي قبل كلّ شيء أداة للتنبؤ بقياسات والمسائل الفلسفية المتعلقة بطبيعة الحقيقة ليست ملائمة. وبالمقابل رفض “الواقعيون” بدءا بألبرت اينشتاين نفسه فكرة أن يكون بإمكان الفيزياء التحليلية/الكوانتية الوصف النهائي للعالَم. هي بالنسبة لهم غير مكتملة لأنَّها احتمالية فقط، بينما ينبغي إيجادُ نظرية أكثر دِقَّة يكون للظواهر فيها وجود وخصائص في ذاتها قبل قياساتها وبمعزل عنها. لذا يقترح ألبرت اينشتاين في مقال شهير كتبه بمعية مُساعدين له “تجربة فكرية” تتضمَّن ثنائيات من الجزيئات مُوجَّهة حسبه لتبيين أن النَّظرية الكوانتية تصل إلى نتائج تخرق السرعة المنتهية لانتشار العلامات[29][29]. لتجنُّب ما سُمِي فيما بعد بـ”مفارقة EPR” كان ضروريا إذن لاينشتاين أن يُكمِل الفيزياء الكوانتية بمعنى “واقعي” بافتراض أن الجزئيات تمتلك فعليا خصائص قبل أن نقيسها.

     يعرض لنا إيناس صافي المناقشات بين الواقعية من جهة والتجريبية و”العملياتية-opérationnalisme” التي هي شكلها الأكثر قوة من جهة أخرى، ويشرح بأنّ المنظِّرين أصبحوا يجدون أنفسهم إزاء أشكال عديدة لإنهاء النظرية التحليلية/الكوانتية. قادت هذه الوضعية إلى التساؤل عن طموحات العلم. نعلم من جهة أخرى أن الفيزيائي جون بال-John Bell (1928-1990) قد اقترح سنة 1944 حلاّ أنيقا لرفع الحرج الناتج عن المفارقة EPR. تحقَّقت التجربة فيما بعد ودارت لصالح الفيزياء التحليلية/الكوانتية قاضية في الوقت نفسه على كلّ النظريات “الواقعية” المسمَّاة “ذات المتغيِّرات المخفية موضعيا-  à variables cachées locales” التي تكون خصائص الجزئيات فيها ملتصقة بها “موضعيا-localement”. تبقى النظريات المسمَّاة “غير موضعية-non locales”، لكنّ هذه الأخيرة لا تبدو لنا طبيعية كثيرا بقدر ما تُسلِّم بوجود أحجامٍ عامَّة. نستطيع كما أوضح ذلك برنار ديسبانيا-Bernard d’Espagnat في كتبه إمّا أن نحتفظ بعملياتية مدرسة كوبنهاغن وإما أن نحتفظ بقراءة واقعية للفيزياء، لكن ينبغي عندها ترك الواقعية الساذجة التي تعتبر الجزئيات أشياء موضعية، وأن نختار ما يُسمَّى بـ”الواقعي المخفي”[30][30]. لا تتوقَّف نتيجة كهذه التي قلنا أنّها كانت تقريبا “ميتا فيزياء تجريبية” عن أن تشغلنا. الوضعية الميتافيزيائية المهيمنة في الإسلام مثلما في المسيحية وفي اليهودية هي بطبيعة الحال وضعية الواقعية. الله وحده هو “الحقّ” المطلق، وهو يظهر عبر “الخلق” الذي يُظهره ويُخفيه في الوقت نفسه. وضعية “الحقيقي المخفي” الفلسفية مُهمَّة جدّا إذن للفكر الإسلامي.

  على كلّ حال يمكن للفكر الإسلامي أن يقوم بقراءته الفلسفية الخاصّة لاكتشافات الرياضيات والفيزياء وعلم الفضاء المعاصر التي تدخل ضِمن رؤيته للعالَم الذي تغرف فيه الأشياء من الذَّكاء الإلهي لكن تبقى فيه أعماقُها غامضة في النهاية ولا يمكن الوصول إليها. وبالمقابل كيف هو الحال مع البيويلوجيا وخصوصا مع نظرية التطوّر التي أثارت من الناحية التاريخية ومازالت تثير معارضة شديدة في العالَم الإسلامي كما في العالَم المسيحي؟ يتطرَّق حميد أمير إلى المسألة. نعلم أنَّ التلقّي البدئي لعمل داروين (1809-1882) ثمّ الصِّيغ المتتابعة والمُعمَّقة لنظرية التطور حتَّى “نظرية الخلق-Théorie synthétique”الحالية قد أثارت ردود أفعال قوية في بعض الأوساط الدينية المسيحية منها خصوصا[31][31]. كانت عناصر مختلفة من هذه النَّظرية قابلة لإثارة هذه الأوساط. يمكن ترتيبها في أربعة أصناف. من جهة الفترات الزمنية الكبرى التي يتطلَّبُها مسار التطور تُقوّي بطبيعة الحال النظرية “التدرّجية” التي تتعارض مع الفهم الحَرْفي لخلق العالَم في سِتَّة أيام كما هو الحال مع المعطيات الجيولوجية والفلكية الفيزيائية. الحرفية هي السبب هنا بطبيعة الحال. تأتي بعد ذلك لعبة الصُّدفة العمياء (التي تتحكَّم في التحولات) والحاجة (الاختيار الذي يُنظِّمه المحيط) اللتان تبدوان وكأنهما لا تتركان مكانا لله الخالق في مسار الخلق. ينبغي أن نفهم هنا أنَّه لا شيء يمنع الله من أن يستعمل الصّدفةَ كأداة للخلق والقيام بذلك بقراءة إلهية للمسارات الاحتمالية التي كانت دوما جزءا لا يتجزَّأ من النَّظريات المادية من ابيقور (342-271 ق. م) ولوكراسيوس (98-54 ق.م). حُجَّة ثالثة هي الطَّابع “الورِع” لظهور الكائن البشري على الأرض والذي تعطيه الديانات التوحيدية مكانة مركزية في مخطَّط الله سبحانه للعالَم. بعبارة أخرى إذا تمكنَّا من الانطلاق ثانية بأرضٍ بدائية، تظهر فيها الحياة ثانيةً، هل يمكن أن يظهر أيضا شيء مشابه للكائن البشري، أي مخلوق ذكيٌ قادرٌ على التطوير التكنولوجي؟ ليس هناك بطبيعة الحال اتفاق حول هذا الموضوع بين المختصّين. يدفع البعض بفكرة أنّ بعض الحلول النَّاجعة من وِجهة نظر الاقتباس مثل الذِهن مُفضَّلَة من طرف التطوّر. من جهة أخرى لقيت المسألة شيئا من الإضاءة من علم الفلك الفيزيائي باكتشاف أن الكون يضمُّ عددا كبيرا جدّا من الكواكب، ومن دون شكّ عددا كبيرا من “كواكب أرض أخرى-exoterre” ممّا يُضاعف من فرص أن تظهر فيها الحياة، وربما الحياة الذكية، وتتطوَّر. على كلّ حال، تبقى حتمية ظهور الذَّكاء مفتوحة من وجهة النَّظر العلمية. ما صدم الأوساط الدّينية المسيحية هو الأصل المُشترَك للكائن البشري والحيوانات، خصوصا ما مفاده أن للإنسان العاقل-homo sapiens والقرود الكبيرة جدّ (أصل) مشتَرَك. يبدو هذا اعتداء على الانتخاب الخاصّ الذي كان الإنسان موضوعا له. وبالمقابل يمكن التذكير بالطبيعة الثنائية للإنسان في انتروبولوجيا التوحيد: “الفخَّار/الطين” و”نفخ روح الله”. ما يؤسِّس الطبيعة الإنسانية هو هذا “النفخ” الخفِيّ المرتبط بالمعرفة والمعنى لا الفخَّار الذي يتقاسمه مع باقي الخلق. أخيرا انصبَّت انتقادات الأوساط الدينية على “قراءات” و”تفسيرات” نظرية التطوّر التي استعملت لأسباب متعدِّدة من أجل تبرير المادية وعلم الوراثة لتحسين النوع الإنساني-éugenisme والليبرالية والرأسمالية والاحتلال، الخ. لا يتعلَّق الأمرُ هنا بقضية علمية بقدر ما يتعلَّق بقضية فلسفية أخلاقية. ينبغي عدم الخلط بين النظريات العلمية مع قراءاتها التفسيرية المختلفة حتى وإن وجب الاعتراف بأن التجريم صعب بالنسبة لمن ليس له اطلاع إلا على صِيغٍ “مُبسَّطة” لهذه النظريات. على كلّ حال، في الوقت الذي أصبحت فيه النظرية أكثر من أيِّ وقت مضى الإطار الوحيد لفهم الكائن الحيّ، فإنَّها تشهد عودة للمعارضة خصوصا في أوساط المحافظين الجُدُد الأمريكيين مع إبداعيةٍ صلبة تُنجِز قراءةً حرْفية لحكاية الخلق الواردة في التوراة وصيغة أكثر حِذقا “التصميم الذكي-l’intelligent design”  الذي يُجهد نفسه في جعل النظرية في وضع عطالة بغرض فتح الطريق أمام نظرية الخلق. الوضعية في العالَم الإسلامي أكثر مُشابهة للأسف مع نظرية خلق تغترف مبرِّراتها من إعادة العيوب الأخلاقية الحقيقية أو المُفترَضة في الغرب إلى نظرية التطوّر (دون الفصل هنا بين النَّظرية وقراءاتها)، وتقترح في صيغة إبداعية/خَلْقية لـ”الأرض القديمة”[32][32] مُعارضة جذرية للسلف (الأصل) المشترَك للإنسان وباقي الخلق[33][33]. ومع ذلك فإنَّه يمكن كما يوضِّح حميد أمير قبول نظرية التطوّر وقراءتها على نحو يستعمل فيه الله الصُّدفة في الخلق.

    النزعات الظاهرية (الحرْفية) حاضرة حقيقة في العالم الإسلامي في الوقت الحالي، وتتَّخذ أشكالا عِدَّة. يوضِّح نضال قسوم حُجَجَها ومبرِّراتها. تعود هذه الوضعية إلى نوعية التعليم العالي والمعرفة السيِئة للتاريخ ولفلسفة العلوم، وتعود خصوصا إلى السياق الثقافي العام الذي أهملت فيه علوم الدين لصالح قراءة إيديولوجية للنصوص الدينية بحثا عن تقوية “هوية إسلامية” تثبتُ نفسها داخل العولمة. لهذا تتعايش اتجاهات ظاهرية مختلفة في العالم الإسلامي. من جهةٍ، نزعة إبداعية كلاسيكية جرت الإشارةُ إليها أعلاه تُرفضُ فيها ببساطة العناصر العِلمية التي يبدو تناقُضُها جليا مع المعطيات الحَرُفِية للنصوص المؤسِّسة –القرءان خصوصا، لكن السنَّة النبوية أيضا. من جهة أخرى توافُُقٌ تُفسَّر فيه هذه النصوص المؤسِّسةُ “بشكل علمي”. عرفت النزعة الأخيرة هذه التي تواجدت بطريقتها ضمن سياق المستخلصات القروسطية في العالم الإسلامي كما في الغرب اللاتيني عودة لافِتة للنظر منذ ثلاثين سنة، وتُشكِّل من دون شكٍّ الحركة الأكثر شعبية في الوقت الحاضر[34][34]. يُمارَس حينها “التفسير العلمي” للقرءان وفيه تجري مُحاولة قراءة آلية للآيات باعتبارها حاملة لمقولات عن ظواهر الطبيعة كما يصِفُها العلم الحديث. ولمَّا كان غير ممكن معرفة بعض هذه الظَّواهر في القرن السابع الميلادي فإنَّنا نرى أنَّ الطابعَ الإعجازي للقرءان يَستبدِل الإعجاز اللغوي الذي يُسنِد تقليديا الطابع الإعجازي لنزول القرءان بالإعجاز العٍلمي. إجراء كهذا هو بطبيعة الحال ممرٌّ مسدود من وجهة نظر المتكلِّمين ويشي بجهل تامّ بطبيعة النَّظريات العلمية.

    أخيرا يفتح محمَّد طالَب طُرُقا نحو تفكير يأخذ من التراث الفِكري الإسلامي ومن فِكر الفيلسوف المعاصِر ألفرد نورث ويتهيد-Alfred North Whitehead صاحب فلسفة المسار-Process في الوقت نفسه. المطلوب هنا هو إيجاد طريقة التَّفكير في المُتعدِّد والتكوين دون فقدان الميول وذلك في أصول الفِكر الإسلامي المبني على وحدة الله ووجود العالَم. يُذكِّرنا محمَّد طالب بأنَّ الفِكر الإسلامي يتضمَّن ضِمن تقاليده برمينيد-Parménide (القرن 6-5 ق.م) وهيراكليت (القرن 6 ق.م) وهما على التوالي مُعلِّما فلسفة الكون/الوجود والتكوين/النشوء. الله الذي يأتي منه كلُّ شيء هو في حقيقة الأمر القيوم والحيُّ في الوقت نفسه. هو الذَّات الخفيةُ دائما والذي لا يكفُّ عن الكشف عن نفسه وعن الإنباء عن ذاته وعن الظهور بلا نهاية أو نفاذ وبلا كلل. مذهب تجديد الخلق والذي يوجد فيه اللهُ منشغلا بالخلق دائما يُترجم هذا الانبثاق اللامتوقِّف للخلق الإلهي. بالعودة إلى هذه التقاليد يستطيع العالَم الإسلامي ويا للمفارقة الانضمام إلى عناصر الرؤية الأكثر مُعاصرة.

    يبدو لنا جيدا إثر هذه النَّظرة العامَّة أن قضية العلاقة بين العلم والدين من وِجهة نظر الفكر الإسلامي بسيطة وعميقة في الوقت نفسه. بسيطة لأن العلم والدين لهما بطبيعة الحال سلطات مختلفة بأهداف ومناهج خاصَّة بكلّ منهما. ينبغي ترك العِلم ليُتابع إجراءات الكشف الخاصَّة به. أمّا الدين فله الحقّ الذي يتقاسمه مع الفلسفة في اقتراح قراءة أو قراءات لرؤية العالَم التي يرسمها العلم وأن يموضع فيها قضية المعنى. وعميقة لأنّ العلم وهو يتقدَّم نحو وصفٍ للحقيقة، الأكثر تفصيلا دائما، والأساسية أكثر فأكثر دائما، يصادف في طريقه غوامض وألغازا تحيل بالنسبة لرجل الدين إلى أسرار الحقيقة والحق الذي هو أحد أسماء الله الحسنى. ربَّما يُمثِّل العيش مع هذا الانشداد إلى حقيقة مُنتظَرة دائما لُبَّ التجربة الإنسانية.


[1][1] ) إرنست رينان، “عن حصَّة (إسهام) الشعوب السامية في تاريخ الحضارة” 1862، خطاب في معهد فرنسا(الكوليج دو فرانس).

[2][2] ) بلور هذا الموضوع في محاضرته الشهيرة: “الانتماء الإسلامي والعلم-l’islamisme et la science” التي ألقاها في السوربون سنة 1883.

[3][3] ) حديث نبوي شريف.

[4][4] ) قرءان كريم. سورة العلق. الآيات 1-5.

[5][5] ) قال رسول الله (ص): “اطلبوا العِلمَ ولو في الصِّين”.

[6][6] ) أي العلماء الذين اشتغلوا في إطار الحضارة المؤسَّسة على الإسلام دينا واللغة العربية لغة ثقافة. كان معظمهم مسلمين غير أنّه كان من بينهم يهود ومسيحيون أيضا خصوصا من أتباع كلّ الكنائس قبل الخلقيدونية، ويوجد منهم بعض الصابئة كذلك الذين كانوا في الواقع وثنيين.

[7][7] ) قرءان كريم. (سورة آل عمران، الآية 190).

[8][8] ) لمقدِّمة مختصرة أنظر: أحمد جبَّار، تاريخ للعلوم العربية-Une histoire de la science arabe, 2001, Paris Seuil. وأنظر من أجل نظرة حصرية موسَّعة: تاريخ العلوم العربية-  Histoire des sciences arabes, sous la direction de Roshdi Rashed et Régis Morelon, 1997, Le Seuil, Paris.

[9][9] ) النقطة التي نعتبر حركة كوكب ما دائرية ومُوحَّدة نسبة إليها، وهي افتراضا مختلفة عن مركز الدائرة.

[10][10] ) جميل رجب. كوبرنيكوس وأسلافه المسلمون: ملاحظات نقدية-           Copernicus and his Islamic predecessors : some historical remarks », 2004, Filozofki Vestnik, Vol. XXV, n°2, p.125

[11][11] ) البتروجي هو أحد خمسة فلكيين ذكرهم كوبرنيقوس في كتابه الأساس:  « De Revolutionibus Orbium Cœlestium”   الذي ظهر سنة 1543، وهم البتروجي وثابت بن قرة والبطاني (855-923) والزركلي (1029-4087) وابن رشد. انظر: جميل رجب.

[12][12]) Edward Grant, Planets, Stars and Orbs : the Medieval Cosmos, 1200-1687, 1994, Cambridge University Press, Cambridge

[13][13]) Noel M. Swerdlow, « The derivation and first draft of Copernicus’s planetary theory: a translation of the commentariolus with commentary », 1973, Proceedings of the American Philosophical Society 117, p. 423

[14][14]) جميل رجب. مرجع سبق ذكره.

[15][15]) David Cosandey,- سر الغرب: نحو نظرية عامَّة للتقدّم العِلمي- Le Secret de l’Occident : vers une théorie générale du progrès scientifique, Arléa 1997, Flammarion, 2007, Paris

[16][16]) سيلفان قوقنهايم. أرسطو في جبل سان ميشال- Aristote au Mont-Saint-Michel،

2008, Le Seuil, Paris.

[17][17]) تحت إشراف:  Philippe Büttgen, Alain de Libera, Marwan Rashed, et Irène Rosier-Catach, Les Grecs, les Arabes et nous, Enquête sur l’islamophobie savante, 2009, Fayard, Paris. Voir aussi (sous la direction de) Bruno Guiderdoni, Musulmans d’Occident, 2010, sous presse.

[18][18]) Maurice Lombard, L’Islam dans sa première grandeur, Flammarion, Paris

[19][19])  Owen Gingerich, The Book Nobody Read, 2004

[20][20]) Arthur Koestler, Les Somnambules, 1960, Calmann-Levy, Paris

[21][21]) Ian Barbour, When Science Meets Religion, 2004. Voir aussi le texte de ses « Gifford Lectures » à Aberdeen : Religion in an Age of Science, 1990,

[22][22]) المواقع الجامعية الأنجلوسكسونية التي تأوي الأقسام العلمية ومعاهد اللاهوت هي المراتع الخصبة والمواقع المناسبة لهذا النوع من الحوار. نذكر على سبيل المثال Center for Theology and the Natural Sciences في جامعة كاليفورنيا بركلي و Ian Ramsey Centre في كامبردج، و Faraday Instituteفي أكسفورد. تأوي هذه المراكز كراسي استاذية ولها نظام طالبي وقسم دكتوراه وما بعد الدكتوراه، ينشر باحثو هذه المراكز أبحاثهم في مجلات متخصِّصة لجان القراءة فيها مُشكَّلة من الزملاء (مثل مجلة: Theology and Science أو « Zygon ») .

[23][23]) مثال نموذجي لهذا السلوك يوفِّره لنا الفيزيائي ويليم فيليبس- William Philipsالفائز بجائزة نوبل سنة 1997، الذي بدأ محاضرته حول “العلم والدّين”(« Simple Science, Simple Faith ») بعرض أعماله العلمية ثم أنشد Gospel للحديث عن إيمانه (جامعة هارفارد، أكتوبر 2001).

[24][24]) انظر مثلا Richard Dawkins, The God Delusion, 2006.

[25][25]) Non-operlapping magisteria, parfois désignés sous l’acronyme NOMA. Voir Stephen Jay Gould, Rocks of Ages : Science and Religion in the Fullness of Life.

[26][26])  هناك سؤال يُطرح أحيانا في سياق الـ NOMA هو سؤال المعجزات. التركيز يجري الآن على المعنى الرمزي لحكاية المعجزة باعتبارها حدثا إيمانيا منقولا عبر جماعة. صحيح أن بعض اللاهوتيين يبرزون طبيعته الاستثنائية المتميِّزة وغير القابلة للاستنساخ للتأكيد على أنَّه يفلت بهذا الصنيع من البحث والدراسة العلميين.

[27][27])  انظر مثلا:

 Keith Ward, The Big Questions in Science and Religion, 2008, Templeton Foundation Press, وذلك لرؤية مسيحية (أنغايكانية) في هذا الحوار، و:

Nidhal Guessoum, Réconcilier l’islam et la science moderne : l’esprit d’Averroës, 2009, Presses de la Renaissance لوجهة نظر إسلامية.

[28][28]) انظر مثلا: Lee Smolin, The Trouble with Physics: the Rise of String Theory, the Fall of a Science, and What Comes Next, 2006, Houghton Mifflin Cie,

أو:  Peter Woit, Même pas fausse : la physique renvoyée dans ses cordes, 2007, Paris,

[29][29])  Albert Einstein, Boris Podolsky, et Nathan Rosen, « Can Quantum-Mechanical Description of Physical Reality Be Considered Complete ? », 1935, Phys. Rev. 47, p. 777.

[30][30])  Bernard d’Espagnat, A la recherche du réel, 1979, Paris.

[31][31]) John Hedley Brooke, Science and Religion: Some Historical Perspectives, 1991, Cambridge University Press.

[32][32]) يميِّز المختصون في المسألة خلق “الأرض الشابَّة” التي خُلِق العالَم حسبها في ستة أيام والذي له من العمر اليوم ما يقارب الـ6000 سنة حسب القراءة الحرفية للتوراة وخلق “الأرض العجوز” الذي تقبل فيه فكرة أن التطور الكوني الفضائي منذ البغ بانغ والتطور الجيولوجي قد أخذ  مليارات السنوات، غير أن الإنسان خُلِق كما هو مرة واحدة من الله بلا تطور. في هذه الصيغة الأخيرة يقبل البعض مبدأ التطور لكل المخلوقات فيما عدا الإنسان.

[33][33]) اشتهر الخطيب والواعظ التركي عدنان أوكتر المعروف باسمه المستعار هارون يحي بدفاعه عن وجهة النَّظر بأدوات مادية مهمَّة كـ أطلس الخلق المبعوث بكميات وفيرة للجامعات والمدارس في بلدان مختلفة.

[34][34] ) الكتاب الذي أعطى قفزة لهذه الحركة هو كتاب: التوراة، القرءان والعِلم-La Bible, le Coran et la Science من تأليف موريس بيكاي سمة 1979. وهو جراح فرنسي كان يرغب في توضيح أن النصَّ القرءاني لا يتناقض في شيء مع معطيات العِلم المعاصر. لقي هذا الكتاب نجاحا مُعتبَرا، وبلور فكرتَه كتاب مختلفون منهم العلماء والدعاة (زغلول النجَّار، أحمد ديدات.

يُميِّز المختصّون بين إبداعية “الأرض الشابَّة” التي خُلِق العالَم حسبها في ستة أيام والذي يُقدَّر عمرُه الآن بستَّة آلاف سنة حسب القراءة  التوراتية الأكثر حرفية، وإبداعية “الأرض المُسنَّة/ العجوز” التي يقبل فيها التطور الكوني منذ الـBig Bang والتطور الجيولوجي على سلالم (مسارات) طويلة (ملايير السنين)، والتي خُلِق فيها الكائن الحيُّ كما هو من الله دونما تطوّر. في هذه الصيغة يقبل البعض مبدأ التطوّرّ لكل كائن حيّ فيما عدا الإنسان