الإسلام ونظرية ” التطوّر” : هل يمكن للعلم والدين أن يتعايشا بانسجام؟

قام ” مركز ماكغيل للإسلام والعلم ” ،الذي تأسّس مؤخّراً، بعقد أولى فعالياته بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2014 وكانت محاضرة عامة للجمهور قدّمتها د. رنا الدجاني بعنوان ” الإسلام، ونظرية التطوّر، ومعنى النجاح بالنسبة للمرأة العالمة في الشرق الأوسط”.

” التطوّر حقيقة !”، هكذا عبّرت د. الدجاني، وأضافت : ” لا تناقض بين الإسلام ونظرية التطوّر”، ومع ذلك لا يزال كثير من المسلمين رافضين لها. وقد ذكرت د. الدجاني أنّه على الرغم من أنّ كتاب ” أصل الأنواع” كان قد نشر في العام 1859، فإنّ الترجمة العربية لم تنشر إلا في ستينيات القرن العشرين، أي تقريباً بعد قرن من نشر الكتاب الأصليّ. وحتى بعد أن عُمّمت الترجمات، فإنّ الكثير من الحواجز اللغوية بقي ماثلاً فيما يتعلّق بالمصطلحات من مثل ” الخلقانية ” والتي تعرّضت لسوء فهم على نطاق واسع.

وبالإضافة إلى الحواجز اللغوية، فقد افتقرت المجتمعات الإسلامية في ستينيات القرن العشرين إلى العلماء والمعاهد العلمية للتعامل وشرح اكتشافات داروين. ولافتقار هذه المجتمعات للأدوات اللغوية والعلمية الضرورية، فقد تبنّت الموقف المسيحيّ تجاه النظرية التي اقترحها داروين، وذلك لسبب رئيسيّ، وهو الروابط القوية مع المسيحية، فهي والإسلام دينان توحيديّان، ونبوّة عيسى المسيح معترف بها عند المسلمين. ونظراً لأنه تمّ تقرير أن نظرية داروين تناقض مباشرةً النصوص الدينية، فقد تم استنكار نظرية التطوّر فيما يخص الإنسان لدى كلا المجتمعين المسيحيّ والإسلاميّ. لقد أسفر التفسير الحرفيّ للنصوص الدينية عن فكرة تصوّر عملية الخلق كما لو حدثت بشكل مباشر وعلى الوجه المثاليّ، وهي الفكرة التي كانت سائدة آنذاك، وأيّ محاولة لاستجواب هذا الفهم كان ينظر إليها على أنها تجديف. وقد أعربت د. الدجاني عن أن ” التطوّر لا يتعارض مع وجود الله.، كما أن داروين لم يناقش أبداً خلق الحياة، بل تطوّرها”. إنّ هذا يبرهن على الحاجة للاستجواب الصحيّ في الدين والعلم كليهما لتبديد المفاهيم الخاطئة ولتشجيع النموّ الفكريّ. ومع أنّ كثيراً من المسلمين اليوم يقبلون نظرية التطوّر فلا يزال هناك الكثير من سوء الفهم.

إنّ المسلمين الرافضين لنظرية التطوّر إنما يعتمدون على تفسيرهم الخاصّ للآيات القرآنية وبالذات قصة خلق آدم، وهي التي لو أخذت حرفياً سيظنّ أنها تدلّ على الخلق المباشر للإنسان بالصورة التي نحن عليها اليوم. على أيّ حال، فإن د. الدجاني تؤمن أن قصة آدم وحوّاء مجازية وتحذّر من استخدام النصوص الدينية كنصوص علمية.

إن القرآن الكريم مرشد وكتاب هداية، لا كتاب علم، غايته إلهام البشرية لطلب المعرفة، أما دعم الطروحات العلمية من خلال التعامل مع الآيات القرآنية فتترتّب عليه نتائج خطيرة. أولاً، إن مناقشة ومساءلة الطروحات يمكن أن تصبح من المحرّمات نظراً لاتصالها بالدين. ثانياً، حيث أن النظريات العلمية قابلة للدحض مع تقدّم العلم بمرور الزمن فإنّ ذلك سيعني تقويض الطرح الدينيّ المرتبط بها. وتعرب د. الدجاني عن رأيها بأن “روعة القرآن الكريم تتمثّل في أنه يمكن أن يكون للناس آراء مختلفة”. وفي الإسلام، يتاح المجال ليكون هناك تأويلات عديدة للنصوص الدينية، بل ومن المعروف أن التأويلات يمكن أن تتغير مع الزمن. وتدعو د.الدجاني وبقوة للحاجة إلى التمييز بين الدين والعملية العلمية لتجنّب التعارضات والعلم الزائف.

مركز ” ماكغيل McGill” للإسلام والعلم

تمت استضافة المحاضرة من قبل مركز ” ماكغيل ” للإسلام والعلم والذي دُشِّن رسمياً بشكل مؤقّت هذا الفصل. ويهدف المركز، حسبما جاء في موقعه الإلكتروني، إلى ” استكشاف التفاعل ما بين العلم والدين في المجتمعات الإسلامية ماضياً وحاضراً، ولتطوير سياسة ومقترحات تعليمية اعتماداً على ذلك الاستكشاف.” أما د.إيهاب أبو هيف، وهو عضو مؤسّس للمركز وكرسي البحث الكندي لبيولوجيا التطوّر، فقد وضّح أن المركز متفرّع إلى ثلاثة مكوّنات : سياسة التطوير، والتاريخ، والتعليم.

ويهدف المركز إلى اقتراح سياسة لتشجيع التطوّر العلميّ في البلدان الإسلامية، حيث قال د.أبو هيف، في مقابلة مع صحيفة ” الديلي ” : ” إن كانت البلدان الإسلامية غير محتضنة للعلوم الأساسية وتبني على إمكانياتها العلمية، فإنها ستبقى مستهلكة للتكنولوجيا وليس منتجة لها”. إنّ الاعتماد على الغرب بشكل أساسيّ للتنمية هو أمر ملحوظ في الشرق الأوسط مع حكومات دول مثل الإمارات العربية التي تعتمد عادة على الوافدين في المجال الأكاديمي والصناعي. إن التنمية العلمية المحلية يمكنها أن تبني الثقة وتلهم الإبداع لتخفيف الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة. وعلى أيّ حال، فإنّ الإبداع والاستقلال التقنيّ يبقيان هدفاً بعيداً.

لقد تعرقل التقدّم العلميّ بسبب الأكثرية في العديد من الدول الإسلامية غير المستعدّة بعد لقبول نظرية التطوّر التي تعتبر مبدأ أساسيّاً في علم البيولوجيا. ويضيف د. أبو هيف : ” ستكون هناك مسائل صعبة أخرى تشكّل تحدياً للمسلمين وطريقتهم في التفكير”. وهو يعتقد بضرورة وجود مراكز بحثية ومبادرات، مثل مركز “ماكغيل” للإسلام والعلم، توفّر منابر للخبراء من مختلف التخصصات مثل العلم والدين والتاريخ لتكون هناك نقاشات مفتوحة وطرح مواضيع مثل نظرية التطوّر والمفاهيم الخاطئة لدى العامّة.

في العصر الذهبيّ للإسلام من 662م إلى 1258م، كان العلماء المسلمون في مقدّمة جبهة الإبداع العلميّ في حقول عديدة مثل الطب والفلك والرياضيات. وقد أنجزوا تطوّرات ثورية مثل اختراع طريقة التخديرعن طريق الفم، والكاميرا ذات الثقب وغيرها من الإنجازات. وقد أثبت التاريخ أنه يمكن للدين والعلم التفاعل بانسجام. فالإسلام يلهم المسلمين لممارسة المعرفة بشكل فعّال، كما نرى ذلك من خلال إنشاء ” بيت الحكمة” في بغداد حيث تواجد علماء مسلمون وغير مسلمين معاً لترجمة الأدب الأكاديميّ إلى العربية ومن أجل تبادل الأفكار فيما بينهم. ويضيف د. أبو هيف : ” حتى نفهم كيف يمكن للإسلام والعلم أن يعملا معاً في السياق الحديث، يجب أن نفهم كيف كان الماضي”. ويتّفق د. أبو هيف مع د. الدجاني على وجوب التمييز بين الدين والعلم، لكنّه يعتقد أنّه يمكن للدين أن يوفّر أموراً أخرى غير الإلهام، وهو يقول : ” نحن ( المسلمين)، ندرك مشاكلنا، ونعرف أن هناك ما يحتاج لحلّ، ونريد أن نصل للحداثة دون الوقوع في فراغ العلمانية”.

حالياً، يبقى العلم غالباً ضمن النظام الغربيّ بمراكزه الرئيسية في أمريكا وأوروبا. وهذا يطرح التساؤل إن كان من الممكن أن نجلب نظاماً علمياً غربياً ونستزرعه في بلد إسلاميّ ذي قيم ونظام مختلف. ويعلّق د. أبو هيف قائلاً : ” لا أعتقد أن هذا سينجح، لأن العلماء، في نهاية الأمر، هم بشر، والعلم هو نشاط ثقافيّ إنسانيّ بقدر ما هو موضوعيّ. ويمكن للثقافات المختلفة أن تساهم بممارسات علمية مختلفة”.

في المجتمع العلمانيّ الحاليّ، يتوقّع من النتائج البحثية أن تقدم تطبيقات واضحة في العالم الواقعيّ، وتقدّم منفعة للمجتمع تبرّر الإنفاق. إن هذه الرؤيا تقمع الأبحاث العلمية التي تطرح تساؤلات فيما حلولها غير ذات منفعة مباشرة للمجتمع. لكنّ البحث في هذه المسائل يساعدنا في جمع حقائق جديدة والعمل على تراكم المعرفة التي يمكنها أن تؤدّي للإبداع. لكن للأسف، فالعلوم الأساسية تواجه مشكلة نقص التمويل.

إنّ الإسلام يشجّع الممارسة العلمية ويحتفي بها، ولذا يجب أن يكون الاستثمار في العلم ذا أولوية في الدول الإسلامية، ويجب أن تكون الدافعية لهذا الاستثمار خيرية لهدف سام لا من أجل نتيجة نفعية مرتبطة بتوجيهات مصلحية. ويمكن للدين والعلم أن يتكاملا، حيث يستطيع الدين أن يكون محفّزاً للبحث العلميّ، ودافعا، وشرارة للطموح، فيما يمكن للاكتشافات العلمية أن تقدم رؤىً جديدة للفهم في النصوص الدينية.

لسوء الحظ، فإن الوصول للنظام العلميّ الغربيّ غير متاح، خاصةً للعلماء في الدول النامية، بسبب نقص فرصة الوصول للمعدّات والعلماء الأقران في الدول المتقدّمة. حتى مع وسائل الاتصالات الفضلى التي تتيحها الإنترنت وأدوات الاتصال مثل السكايب، فإن الفجوة ما تزال موجودة، وهي تفرض تحدّيات على الجامعات في الشرق الأوسط وبلدان مثل باكستان.

هناك حدود معقّدة بين العلم والدين، وفي حين أن هناك آراء متباينة حول الكيفية التي يمكنهما بها العمل سوياً، فإنّ الجميع متفقون على أن هناك حاجة للمزيد من النقاشات.